ثقافة البناء

العمل والبناء والتطور من أهم سمات الدول الحضارية المتقدمة، وإننا لن نجد دولة متقدمة بنيت على كسل أبنائها أو جهلهم، لكن الدول تبنى بالعلم والعمل معاً، هذه هي سنة الله تعالى في الكون، ربط الأسباب بمسبباتها، وأُمِرنا أنْ نأخذَ بالأسباب لتحصيل المسببات، في الوقت الذي تكون قلوبنا متوكلة على الله تعالى، لكننا لو توكّلنا بالقلوب فقط فلن تُبنى الدول؛ لأننا عطّلنا الأسبابَ التي أمرنا الله تعالى بالأخذِ بها، فالحاصل أنّه لا معنى لقولنا توكلنا على اللهِ ربّنا ونحنُ جالسون لا نتعلمُ ولا نعمل، فهذا أمرٌ ترفضه العقيدة الإسلامية وتسميه تواكلا.

ولو تأمّلنا سيرةَ النبي صلى الله عليه وسلم لوجدناها عامرةً بالدّروس التي توجهنا للبناء والتّطور، وهو القدوة الحسنة لنا، فعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ المنورةَ وأراد بناءَ المسجد شارك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في نقل الحجارة، وهذا مثالٌ عملي على حسن القدوة، فالقائد يسبق أتباعه بالعمل ليكون قدوة لهم، ثم تبيّنَ للنبي صلى الله عليه وسلم أن صحابيًا من اليمامة يُحسِن خلط الطين وتجهيزه، فقال: (قدِّموا اليمامي؛ فإنه من أحسنكم له مسًّا)، وفي هذه الجملة فوائد منها: ينبغي على القائد أن يلاحظ أتباعه ويعلمَ مهارة كلّ واحد منهم، وأنْ يضعَ الإنسانَ المناسبَ في المكان المناسب، وأنّ المهارة والقدرة والمعرفة هي سببُ تكليف الشخص بالمهمة لا القرب أو الحبّ، وعلى القائد ألا يكسر بخاطر الآخرين بل عليه أن يشجعهم وذلك من قوله: (فإنه من أحسنكم).

وهكذا كان يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نكتشف طاقات الآخرين ثم نستثمرها، فإذا أحسن الإنسان أمرًا أو أتقنه دون غيره، لم يعيّره بنقصه، بل ميّزه بما أتقنه، ونلمس هذا واضحاً في قوله عليه الصلاة والسلام: (أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أَبُو بكر، وأشدُّها حَيَاء عُثْمَان، وأعلَمُهَا بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله تَعَالَى أُبِيّ، وأعلَمُهَا بالفرائض زيد، وَلكُل أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هَذِه الأُمّة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح) فعلى القائد أن يكتشفَ المهارات ثم يكلفَ بالمهمّات، هذا ما يفعله من أراد التقدم والبناء.

ثم يعلمنا سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستفيدَ من خبرات الأمم الأخرى المفيدة، وألا نطرحَ جانبًا ما كان غريبَ الهوية عنا لمجرد غربة مصدره أو اختلاف هويته، ففي معركة الأحزاب اقترح سيدنا سلمان الفارسي بحفر الخندق كخط دفاعي عن المدينة، وهو أمر لم تعتده العربُ ولا تعرفه، لكنه من خطط الفرس العسكرية، فاستحسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفر خندقاً حول المدينة المنورة، فالحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها التقطها، فالنظر في خبرات الأمم والشعوب والحضارات المتقدمة واستنساخها وتطوير ما يُمكن تطويرُه منها من سمات القائد الباني.

ويمكننا أن نلحظَ أن النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا مثالاً يُحتذى في التشاور وعدم الانفراد بالرأي، وهو الذي لو انفرد لم يعاتبْه أحد؛ لأنه رسولٌ يوحى إليه، لكنه كان على الدوام يشاور أصحابه ويستمع لهم، وأمثلة ذلك كثيرة منها: أخذه برأي الحُباب بن المنذر في تمركز الجيش في غزوة بدر، ومشاورته في أسراها من المشركين، ومشاورة أصحابه في غزوة أحد هل نقاتل المشركين في المدينة أو خارجها، وأخذه برأي سلمان في حفر الخندق، وهكذا ينبغي على القائد أن يكون مشاوراً لأصحابه، مستمعاً لهم، وهذا لا يكون إلا في جوٍّ من حرية الرأي واحترامه، وفي مناخ من المحبة والإخاء، وإيجاد هذا المناخ والجّو هو مسؤولية القائد الأولى.

فإذا أردنا البناء والتقدم -وكلّ واحد فينا قائد في مكانه قادر على التغيير والتطوير- فهذه بعض أسراره ومعالمه، وما علينا إلا المبادرة، (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)، فهل دقت ساعة العمل؟