استدلالات في غير محالها (إنك لا تسمع الموتى)

استدلالات في غير محالها (1) (إنك لا تسمع الموتى)

يستدل البعض بهاته الآية الجليلة وأقرانِها على أن الموتى لا يَسْمَعُونَ الكلام، وهنا لستُ بصدد إثبات السماع للموتى أو نفيه عنهم، بيدَ أنني أقول بأن هذا الاستدلال ليس في محله لما يأتي:

أولا: الآية لا تتكلم عن سماع الموتى بل عن إسماع الموتى، قال تعالى (إنك لا تُسمِعُ المَوتَى) وشتَّانَ ما بين الأمرين.

ثانيا: الإسماع الحقيقي -سواء كان للموتى أو للأحياء- ليس في قدرة أي مخلوق، بل هو أمر موكول إلى الله تعالى، ولذلك لو قلت: "إنك لا تُسْمِعُ الأحياءَ ولا الأمواتِ" لم تجانب الصواب، لأن الذي يتولى إسماعَ كلامِكَ للغير هو اللهُ تعالى وليس غيره.

ثالثا: في نهاية الآية تصريحٌ آخر بأن المراد من الآية هو الإسماع وليس السماع، حيث يقول الله تعالى (ولكنَّ الله يُسمِعُ مَنْ يَشاء) 

رابعا: ثمة نصوص قرآنية أخرى أكَّدت هذا المعنى، منها قوله تعالى (إن الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وما أنتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ في القبور).

خامسا: للسماع معنيان، الأول معنى حقيقي وهو سماع الصوت سَمَاعَ إِدْرَاكٍ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، والثاني: معنى مجازي وهو سماع الطاعة والانتفاع بالكلام، كما تقول: ابني لا يَسْمَعُ كلامي، ولا تقصد بذلك أنه أصمّ لا يَسمع صوتك، بل تقصد أنه لا يطيعك ولا ينتفع بكلامك.

وقد صرَّح القرآن بهذا المعنى في أكثر من آية.

فقد نصَّ القرآن على أن الله تعالى لم يُسْمِع كفارَ مكة كلامَه، قال تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) سورة الأنفال: 23، ونفى عنهم السماع في آيات أخرى، قال تعالى (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) سورة الأنفال:21، وقال تعالى (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)سورة فصلت: 4 ، وقال تعالى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) سورة الفرقان: ٤٤.

هذا مع علمنا بأن كفار مكة قد سمعوا كلام الله تعالى، قال تعالى (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) سورة الجاثية:7-8،

فهنا نجد أن القرآن الكريم قد أثبت للكفار السماع في آيات، ونفاه عنهم في آيات.

إذن فكيف نجمع بين إثبات السماع للكفار ونفيه عنهم؟!

هذا من جانب، ومن جانب آخر ذكر القرآن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُسمِعُ إلا المؤمنين، قال تعالى في سورة النمل: 81 (إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ) وكرر الآية نفسها في سورة الروم:53

وقال تعالى حاكيا كلام الكفار وَنَدَمَهُمْ يومَ القيامة (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) سورة المل:10.

ومعلومٌ لكل من له مُسكةٌ من عقل أن الله لا يقصد أن مثل أبي جهل وابن المغيرة وأبي لهب كانوا صما ليس لهم قدرة سماع الأصوات، بل المقصود هو أنهم لم يطيعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينتفعوا بكلامه. 

وبهذا يتبين أن السمع الثابت غير السمع المنفي، والمُرَادُ بالسَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] هو سَمْعُ الْقُبُول وَالِامْتِثَالِ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، فالكافر لا ينتفع بكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كالميت الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ، وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى.

قال الشيخ ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في معرض كلامه في إثبات سماع الموتى "فَالْمَيِّتُ وَإِنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي، وَلَا امْتِثَالَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَنُهِيَ عَنْهُ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ سَمِعَ الْخِطَابَ، وَفَهِمَ الْمَعْنَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].

الهامش:

الفتاوى الكبرى لابن تيمية (المتوفى: 728هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1408هـ - 1987م: 3/62.

 أخوكم:

د.عثمان محمد غريب