نظرة الإسلام إلى الإنسان

 

د. عبدالله سعيد ويسي

كلية العلوم الإسلامية- جامعة صلاح الدين

Abdullah.waise@su.edu.krd

لقد منح الله سبحانه وتعالى الإنسان منزلةً فريدةً ليكون في قمةِ مخلوقاته، فجعله من أكرم مخلوقات الكرة الأرضية ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا﴾ [الإسراء:70]، ونفخه الله من روحه ﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر:29]، وأمر الله-سبحانه وتعالى- أنْ  يسجد له الملائكة والكائنات سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة،﴿فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ﴾ [الحجر:29]، وخلقه في أحسن تقويم  وذلك باعتدال قامته، واستقامته، وتناسق أعضائه؛ لأداء وظائفه، والمسحة الجمالية في شكله،﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ﴾ [التين:4]، وجعله خليفته له في الأرض ﴿ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ ﴾ [البقرة:30]، وشرّفه الله سبحانه وتعالى بالعلم، فعلّمه ما لم يعلم ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ [العلق:5]، ومنحه ملكة البيان، وذلك بالقدرة على التعبير عمّا في النفس﴿ ٱلرَّحۡمَٰن*  عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَان﴾ [الرحمن:1-4]،  كما وسخر الله له جميع آياته ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:13]،﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [ابراهيم:33]، ولم يكلّفه ما فوق طاقته﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، ويُحاسبه على كل صغيرة وكبيرة يوم الحساب ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13-14]، كلّ ذلك للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه. 

ومع هذا فإنَّه تعالى بأمر عباده بالتعامل المكرّم مع النفوس البشرية المُكرَّمة؛ فلا يجوز إهانتها أو ظلمها، أو التعدي على حقوقها، أو التقليل من شأنها، وهذا واضح بَيِّن في آيات القرآن الكريم: ﴿أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ [الأنعام من الآية:151]، وكذلك قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام من الآية:151]. فالأمرُ عامٌ يشمل نفوس المسلمين وغير المسلمين؛ فالعدل في الشريعة مطلقٌ لا يتجزأ، فالشريعة تأبى الظلم في كل صوره، والنهي عن ذلك واضح في آياتٍ لا تُحصَى، وهو مرفوض إلى يوم القيامة... بل يقول الله عز وجل في صفة الحساب يوم القيامة: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء من الآية:47]، فالأمرُ جاء على إطلاقه ؛ فلن تُظلم -نفسٌ- يوم القيامة، أيًّا كانت هذه النفس، مؤمنة بالله أو كافرة به، مسلمة كانت أو نصرانية أو يهودية، أو غير ذلك من الملل والنحل الأخرى...

ربط الإسلامُ الإنسانيةَ كلها بالروابط الوثيقة حين ردّها إلى أبٍ واحد، وأمٍ واحدة، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ﴾ [النساء:1]، وبيّن أن الاختلاف بين الناس ليس أمراً محتملاً فقط، بل هو حتمي! ولن يوجد زمانٌ يتفقُ فيه العالمون على رأيٍ واحد في قضيةٍ ما، بما فيها قضية الألوهية والتوحيد، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود:118]، فالمسلم يقبل ببساطة أنْ يوجد مخالفون له في العقيدة، ويعلم أنْ اختفاءهم من الأرض مستحيل؛ ولذلك يتعايش معهم بشكل طبيعي، وخاصة أنّ الشريعة الإسلامية توضح بجلاء أُطُر التعامل وآليات التفاهم مع الطوائف المختلفة من غير المسلمين، من هذا المنطلق جاءت أوامر الشريعة الإسلامية المؤكدة على فضائل الأخلاق ؛عامةً لتشمل المسلمين وغير المسلمين، ففي مسألة الرحمة يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]. فليست الرحمة هنا خاصة بالمسلمين، إنّما هي عامة لكل البشر على اختلاف أديانهم ومِللهم... وفي التعارف يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات:13].  موضحاً أنّه لا تميز لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى، وهي الصفة المكتسبة التي بمقدورٍ كل أحدٍ أنْ يسعى للاتصاف بها، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]. فلم يقتصر التعارف أيضاً على طائفة معينة، إنّما اتسع ليشمل كل الشعوب والقبائل... والرزق في الأرض مكفول لكل البشر، والكون مُسَخَّر للإنسانية جمعاء، دون تفرقةٍ بين مؤمن وكافر. يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾​ [الحج:65]. فهذا التسخير للأرض والفُلك والبحار والسماء لكل البشرية تحقيقاً لمقتضيات الخلافة والعمارة في الأرض، والتعليق الختامي على الآية يوضح أنّ الرأفة والرحمة لكل الناس...  إلى غير ذلك من الأوامر الإلهية التي ترشدنا إلى الأخذ بمكارم الأخلاق دون التمييز بين الدين أو اللون أو العرق...

وقضى رسول الله ﷺ على كل الفوارق البشرية في خطبته المشهورة في حجة الوداع، حين قرر مبدأ المساواة بين الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا ‌إِنَّ ‌رَبَّكُمْ ‌وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى) ، كما وحارب شتى أنواع التفرقة والتمييز، مستنكراً مَنْ يعمل على هذه التفرقة(‌لَيْسَ ‌مِنَّا ‌مَنْ ‌دَعَا ‌إِلَى ‌عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) ، وأمره بالالتزام بحُسن الخلق مع الناس جميعاً(وخالقِ الناسَ بخُلقٍ حسن).

وما أبلغ وأروع الموقف الذي علَّمَنا إياه رسول الله من تكريمه للنفس البشرية، وذلك عندما مَرَّت به جنازة يهودي، كما رواه البخاري أنَّ رسول الله مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا"، إنّ رسول الله ﷺ في هذا الموقف زرع في نفوس المسلمين التقدير والاحترام والرحمة لكل نفس إنسانية، وذلك على الإطلاق؛ لأنّه فعل ذلك وأمر به، حتى بعد عِلْمِه أنّه يهودي..

إنّ هذا الموقف النبوي قد رسَّخ في أذهان الصحابة -والمسلمين من بعدهم- أنَّ الإسلام يحترم كلَّ نفس بشرية ويُقدرها ويُكرمها، وهذا الذي دفع قيس بن سعد وسهل بن حنيف رضي الله عنهما أنْ يقفا لجنازة رجلٍ مجوسي يعبد النار! فالمجوسي هذا ليس كتابيًّا أصلاً، وهو على عقيدة مخالفة تمامًا لدين الإسلام، ومع ذلك فالصحابة يُدركون قيمة النفس البشرية فيُكَرِّمونها ويقفون لها..

إنَّ تكريم الإنسان وتفضيله على باقي الكائنات التي خلقها المولى عز وجل، وذِكْرُ ذلك في عددٍ من آيات القرآن الكريم وأقواله ﷺ لكفيلٌ أنْ يوضح مكانة الإنسان في الإسلام وعلّو منزلته، فآيات الله في خلقه كلّها قد سخرها الله للإنسان فأيُّ مكانةٍ تلك التي يحظى بها الإنسان لدى خالقه.