التعايش وقبول الآخر عند البارزاني

 

د. عبدالله سعيد ويسي

كلية العلوم الإسلامية- جامعة صلاح الدين

Abdullah.waise@su.edu.krd 

لا يخفى على أحد أنّ الله سبحانه وتعالى منح الإنسان منزلةً عظيمة، فجعلهُ من أكرم مخلوقاته ونفخهُ من روحه، وخلقهُ في أحسن تقويم، كما وشرّفه بالعلم، فعلّمه ما لم يعلم، ومنحهُ ملكة البيان والحكمة، وسخر له جميع آياته، ولم يكلّفه ما فوق طاقته، ويُحاسبه على كل صغيرة وكبيرة يوم الحساب، كلّ ذلك للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه. 

ومع هذا فإنَّه تعالى يأمر عباده بالتعامل المكرّم مع النفوس البشرية المُكرَّمة؛ فلا يجوز له إهانتها أو ظلمها، أو التعدي على حقوقها، أو التقليل من شأنها، وهذا واضح جليٌ في آيات القرآن الكريم: ﴿أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ [الأنعام من الآية:151]، فالأمرُ عامٌ يشمل نفوس المسلمين وغير المسلمين؛ فالعدلُ في الفهم الإسلامي مطلقٌ لا يتجزأ، فالإسلامُ يأبى الظلم في كل صوره، والنهي عن ذلك واضح في آياتٍ قرآنيّة لا تُحصَى، وهو مرفوضٌ إلى يوم القيامة... فلن تُظلم -نفسٌ- يوم القيامة، أيًّا كانت هذه النفس، مؤمنة بالله أو كافرة به، مسلمة كانت أو نصرانية أو يهودية، أو غير ذلك من الملل والنحل الأخرى...

من هذا المنطلق جاءت فكرة التعددية وقبول الآخر لدى مشيخة بارزان عموماً والملا مصطفى البارزاني خصوصاً، فمشيخة بارزان -كانت في الماضي ولا تزال - من أكثر مشايخ الصوفية نفوذاً واحتراماً في كردستان، حيث يؤكد الكاتب (مردخاي زاكن) في كتابه المترجم (يهود كردستان ورؤسائهم القبليون)  على تواضع شيخ بارزان عبدالسلام الثاني (1882-1914م)، وذلك عندما قارنه بغيره من رؤساء القبائل، قائلاً: " إنَّ أولئك الرؤساء، حتى الأقل سطوة، كانوا يعيشون في القصور"، في حين كانت منازل الشيخ عبدالسلام الثاني بين رجاله، ولا يتعدى مكان إقامته عدة منازل متجاورة، وكانت القرى في منطقة بارزان مزدهرة، والشيخ نفسه كان حكيماً، رحيماً، معروفاً بعدالته في التعامل مع أتباعه بدون استثناء، وعندما نشب النزاع بينه وبين الحكومة، وأصبح فاراً في الجبال، قطف ثمار معاملته الطيبة لفلاحيه، لأنّه لم يوجد إنسانٌ واحد، مسلم أو مسيحي، يقوم بخيانته، ويُسلمه لأعدائه، لكونه كان كريماً ومحباً للخير، ليس فقط تجاه أتباعه المسلمين، بل تجاه من لم يكن مسلماً".

كما ويشير الكاتب بوضوح إلى التعامل الحسن الذي كان يحظى به اليهود من قبل شيوخ بارزان، وذلك من خلال قوله": يبدو أنَّ شيوخ النقشبندية، خاصة الشيخ أحمد البارزاني، والملا مصطفى البارزاني، يرتبطون بعلاقة حسنة خاصة مع اليهود الكورد الذين يتمتعون برعايتهم... وزيادة على ذلك يتحدث الرواة من يهود مناطق: شنو، ميركةسور، سركاني، وديانا، يتحدثون عن المواقف الإيجابية للبارزانيين تجاه اليهود".

فقد كانت قرية بارزان تحتضن بين دفتيها (مسجد المسلمين) و(كنيسة النصارى) و(معبد اليهود)، وأتباع الديانات كلها كانوا يمارسون عباداتهم الدينية وطقوسهم الاجتماعية بكل حريّة وسلام، وكانوا متعايشين معاً بأمنٍ وأمان بسبب الفلسفة العميقة للتعايش وقبول الآخر لدى شيوخ بارزان، والذي نتج عن ذلك تعميق ثقافة التعايش السلمي في المنطقة بعمومها، وبقائها آمنة مطمئنة بعيدة كلّ البُعد من ويلات التعصب الديني والمذهبي، فهذه الفلسفة غدت راسخة في هذه المنطقة بفضل الدور الكبير لعلماء الدين عموماً، وشيوخ بارزان خصوصاً الذين استمدوا هذه المبادئ من فلسفة الإسلام الصريحة القائمة على حريّة الدين والاعتقاد، فلو تتبعنا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لحصدنا أعداداً كثيرة من النصوص الدينية التي تؤكد على ضرورة التمنهُج بفلسفة التعايش وتعميقها.

لقد سلك المرحوم ملا مصطفى البارزاني(1903-1979م) مسلك سابقيه من شيوخ بارزان في التركيز على التعددية الدينية وضمان حريّتها، وكذلك تعميق روح التعايش وقبول الآخر، لأن إرساء هذه الفلسفة في المجتمعات الإنسانية خيرُ وسيلةٍ لحفظها وصيانتها من الاضطراب والفوضى، فكان البارزاني متسامحاً مع نفسه ويدعو من حوله والناس جميعاً للتسامح مع أنفسهم وقبول الآخرين والتعايش معهم دون النظر إلى ألوانهم أو أديانهم أو معتقداتهم، وذلك بأسلوبه الأبوي الرحيم وفطنة ذكائه وسعة صدره وبكلماته الطيبة التي كانت تخرج من فمه بكل سهولة وعفوية لتجد طريقها إلى قلوب أتباعه ومحبيه وعقولهم، مؤصلًا بذلك إرثاً غنياً استلهمه من شيوخ بارزان لا ينضب من المحبة والتسامح والرحمة، ورسالةً قويّة لأسرته وأتباعه مفادها أنَّ القيادة الحقيقية ليست في المكاسب السياسية والاقتصادية فحسب، بل هي في تثبيت قيم المحبة والتعايش والتسامح والسلام بين الناس.

 كان البارزاني يهدف بفكرته الواسعة وفلسفته العميقة إلى أنْ يعيش الجميع تحت راية واحدة بدون تميز عرقي أو ديني، وإبان سلطته في ثورة أيلول (1961-1975م) اتضحت الرؤية الحقيقية لفكره، حيث لم يكن هناك أيُ تمييز أو تفريق بين جميع المكوّنات الكوردستانية، كردياً كانت أو عربياً أو تركمانياً، وكذلك بين جميع الأديان والمذاهب الموجودة سنيّةً كانت أو شيعة، مسيحية أو إيزدية...، فكان البارزاني يحترم حقيقة كل الأديان دون تمييز ويوليها اهتمامه، وذلك لإيمانه الكامل بالتسامح والتعايش الديني، فكان ينظر إليهم نظرة واحدة، دون أيّ تميز.

إنَّ السياسة الحكيمة التي انتهجها المرحوم ملا مصطفى البارزاني إبان ثورة أيلول أدت إلى مشاركة المكوّنات المختلفة فيها من أجل رفع الظلم والاضطهاد عن كوردستان، حيث قام الآشوريون والكلدان والإيزيدين والتركمان وحتى العرب بحمل السلاح والوقوف صفاً واحداً أمام السياسات القمعية التي كانت تنتهجها الحكومة العراقية آنذاك تجاه شعب كوردستان، حيث اختلط الدم الكوردي في خنادق القتال مع غيره من المكوّنات الدينية والقومية دفاعاً عن كوردستان وأهلها، فهم لم يكونوا يدافعون عن الكورد كقومية، بل كانوا يدافعون عن وطنٍ يتمتعون فيه بالمواطنة، كانوا يدافعون عن الرسالةِ التي كان يحملها البارزاني، وهي رسالة الأخوة والمواطنة والتعايش وقبول الآخر.   

لا غرابة في أنْ يكون سكرتير الحزب الديمقراطي الكوردستاني في ثورة أيلول مسلماً شيعياً، ووكيل وزارة شؤون الشمال مسلماً تركمانياً، وعدداً من قيادي ثورة أيلول من المسيحيين (فرنسو حريري، هرمز ملك جكو، آدم قيصر، لاوكو) وغيرهم، وأنَّ يقوم البارزاني بتعيين القس الكلداني (بولس بيدار) عضواً في مجلس قيادة ثورة أيلول ممثلاً عن المسيحيين، ولا غرابة في أنْ ترضخ الحكومة العراقية بعد اتفاقية آذار 1970م لطلب البارزاني بتعيين( فرنسو حريرى) كأول قائمقام لقضاء جومان ضمن الحدود الإدارية لمحافظة أربيل، ليصبح أول قائمقام مسيحي يُدير قضاءَ الغالبية العظمى من سكنته من المسلمين، كما ورشّح البارزاني للحكومة العراقية أحد المسيحيين  بتعيينه قائمقاماً لقضاء العمادية؛ إلا أنَّ الحكومة العراقية لم تستجب لطلبه.

ولا بدّ لنا وأن نُشير إلى أنَّ أماكن العبادة قد أماكن العبادة باهتمامٍ كبير من قبل المرحوم ملا مصطفى البارزاني، حيث يذكر محافظ أربيل الأسبق فرنسو حريري(1937-2001م) أنَّه وبعد اتفاقية 11 آذار، قام البارزاني بإعادة إعمار عددٍ من المساجد التي دمرتها الحكومات المتعاقبة، كما وخصص في الوقت نفسه مبلغاً من المال من أجل إعادة اعمار عددٍ من الكنائس المدمرة في كوردستان، منها "كنيسة مار كوركيس في بيديال، وكنيسة ديانا، وكنيسة مار أورهان في هاوديان".

والأمثلة عديدة حول هذه المسألة، لا مجال لسردها، فالنظرة العادلة والمتساوية من قبل البارزاني لأبناء الوطن على اختلافهم انتماءاتهم ومعتقداتهم، جعل البارزاني عظيماً في نفوسهم، وكانوا كالجسد الواحد في الدفاع عن نهجهه وفكرته الساميّة....