| | القسم الثاني حكـمُ الجـهـادِ | إذا كان الجهادُ في الإسلامِ حربًا دفاعيةً في سبيلِ اللهِ، فمن المنطقيِّ أن يكونَ فرضًا ولازمًا إذا دَعتْ إليه الأحوالُ والظروفُ. ومع ذلك وجدْنا في تراثِنا الإسلاميِّ وجهاتِ نظرٍ عديدةً ومختلفةً حول كونِ الجهادِ فرضًا أو غيرَ فرضٍ. والذي يُمكنُ أنْ نلخِّصَه في هذه الورقةِ هو أنَّ الجهادَ فريضةٌ على المسلمينَ، ولا يعني ذلك – أبدًا – أنْ يحمِلَ كلُّ مسلمٍ سيفَه أو سلاحَه ويُقاتلَ الآخرينَ، فهذا أمرٌ غيرُ معقولٍ، ولم يحدُثْ في تاريخِ الإسلامِ وانتشارِ حضارتِه شرقًا وغربًا؛ أنْ تَعَامَلَ المسلمونَ مع غيرِهم بهذه الصورةِ المزيَّفةِ التي يُروِّجُ لها كثيرونَ الآنَ، بل المقصودُ هو أنَّ على كلِّ مسلمٍ أنْ يُجاهدَ بما يتَّفقُ مع أحوالِه وظروفِه، يجاهدَ بقلبِه، أو بلسانِه، أو بمالِه، أو بالقرآنِ. أمَّا الجهادُ بالنفسِ – أي القتالُ – فهو فرضٌ غيرُ متعيِّنٍ على كلِّ مسلمٍ، بمعنى أنَّ الجيشَ ينوبُ عن أفرادِ المسلمينَ في تحمُّلِ هذه الفريضةِ، وبحيثُ تسقُطُ مُطالَبةُ باقي الأفرادِ بها، ولا يُسألونَ عنها أمامَ الله تعالى يومَ القيامةِ. إذن فالجهادُ بالنفسِ ليس فريضةً شخصيةً كفريضةِ الصلاةِ أو الصومِ التي هي واجبٌ متعيِّنٌ على كلِّ فردٍ مسلمٍ، بل هي فرضٌ كفائيٌّ؛ إذا قامَ به البعضُ سقطَ عن الباقين. وقد يكونُ القتالُ فريضةً شخصيةً على كلِّ مسلمٍ، وذلك فيما لو فاجأ العدوُّ بلدًا مسلمًا ودخلَه واحتاجَ الجيشُ مساعدةَ الأفرادِ، فهنا يجبُ على كلِّ مسلمٍ أنْ يقاومَ العدوَّ بكل ما يَملِكُ من نفْسٍ أو مالٍ أو غيرِهما، وهذا أمرٌ منطقيٌّ أيضًا لا يَتمارى فيه إلَّا من يُصادِرُ حقوقَ الناسِ في الدفاعِ عن أنفسِهم وأوطانِهم. متى يكون الجهاد فرضًا على المسلمين؟ متى يكونُ الجهادُ – بمعنى القتالِ – فرضًا على المسلمينَ؟ لو رجَعْنا إلى القرآنِ الكريمِ وإلى السُّنةِ النبويةِ وإلى أئمةِ المسلمين في العصورِ الأولى، فإنَّنا نجِدُ الإجابةَ صريحةً في أنَّ القتالَ المفروضَ على الأمةِ هو قتالُ مَن يقاتلونها، وهذا ما يقولُه القرآنُ الكريم، يقول تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190]. ويقول تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقــرة: 191]. ويقول تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التــوبة : 36]. ونلاحظُ أنَّ الجهادَ الآنَ فرضُ عينٍ بالنسبةِ للقواتِ المسلحةِ؛ إذ هي الجهةُ المنوطُ بها تحقيقُ أمنِ الوطنِ وسلامتِه من كلِّ اعتداءٍ خارجيٍّ، وهي تتحمَّلُ هذا العبءَ عن بقيةِ أفرادِ الدولةِ المسلمةِ، فلا يكونُ الجهادُ فرْضَ عينٍ إلَّا في حقِّ المجنَّدِ إذا دُعيَ إليه أو أُمِرَ به. متـى فُـرِضَ الجهـادُ من الحقائقِ التاريخيةِ والدينيةِ في الإسلامِ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه قَضَوْا في مكةَ ثلاثةَ عشرَ عامًا يُواجهونَ الظلمَ، ويَتحمَّلونَ الأذى بل العذابَ من كفَّارِ قريشٍ، ورغمَ ذلك لم يُقاتلوا الكفارَ ولم يُشهِروا سيوفَهم في وجوهِهم. وكثيرًا ما كانوا يذهبونَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في مقاتلةِ أعدائِهم، ولكن لم يأذنْ لهم بالقتالِ، وإنْ أَذِن لهم بمغادرةِ مكةَ والهجرةِ إلى دولةٍ مسيحيةٍ ومَلِكٍ مسيحيٍّ هي الحبشةُ ومَلِكُها النجاشيُّ، وقد هاجرَ إليه المسلمون المستضعفونَ مرتَيْن في العهدِ المكيِّ واحتَمَوْا به، وحَماهُم بالفِعْلِ وأمَّنَهم من ظلمِ الوثنيِّين. وظلَّ الأمرُ كذلك إلى أنْ هاجرَ النبيُّ والمسلمونَ إلى المدينةِ، وهناك وفي السَّنةِ الثانيةِ بعد الهجرةِ إلى المدينةِ نزلَ القرآنُ بالإذنِ للمسلمينَ في قتالِ أعدائِهم ومُواجهتِهم، وأولُ ما نزلَ من القرآنِ في الإذنِ بالقتالِ هو قولُ اللهِ تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 39-40]. وهاتان الآيتان واضحتان تمامَ الوضوحِ في أنَّ مشروعيةَ القتالِ في الإسلامِ مرتبطةٌ بنصرةِ المظلومينَ ودفعِ الظلمِ عنهم، وتمكينِهم من حقِّهم في حياةٍ آمنةٍ مثلَ غيرِهم، وهو حقٌّ لا يستطيعُ عقلٌ مُنصفٌ أن يتنكَّرَ له أو يرتابَ في مشروعيتِه في يومٍ من الأيامِ. ولو دقَّقْنا النظرَ في هاتَيْن الآيتَيْن فسوف نكتشفُ فيهما من عدلِ الإسلام وإنصافِه واحترامِه للآخرينَ ما يلي: أولًا: تُقرِّرُ الآيةُ الأولى أنَّ المسلمينَ لم يبدأوا الكفارَ بالقتالِ، بل العكسُ هو الصحيحُ، وأنَّ الإذنَ للمسلمينَ جاء لردِّ الاعتداءِ والقتالِ الواقعِ عليهم بالفِعْلِ، وهذا ما يدُلُّ عليه الفِعْلُ (يُقَاتَلُونَ)، المبنيُّ لما لم يسم فاعله، والذي يُفيدُ أنَّ القتالَ واقعٌ من غيرِ المسلمينَ على المسلمينَ. ثانيًا: يبيِّنُ القرآنُ أنَّ المسلمينَ قُوتِلوا ظُلمًا وعُدوانًا، وأنَّهم أُخرجوا من ديارِهم دونَ ذنبٍ أو جريمةٍ تُوجِبُ إخراجَهم من أوطانِهم. وهكذا شُرِعَ القتالُ للمسلمينَ دفاعًا وليس عُـدوانًا، وهذا ما تُقِرُّه كلُّ الشرائعِ والأعرافِ والقوانينِ. ثالثًا، وهذا هو الأعجبُ: أنَّ القتالَ المشروعَ في هذه الآيةِ هو قتالٌ للدفاعِ عن الأديانِ السماويةِ بأسرِها. أقولُ: "الأديانَ السماويةَ" وليس دينَ الإسلامِ فقط، وهذا ما يُفيدُه قولُه تعالى بعد ذلك مباشرة:{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} [الحج: 40]. وقد كنا نتوقَّعُ أنْ يأذنَ اللهُ للمسلمينَ بالقتالِ لتأمينِ العبادةِ في المساجدِ فقط، ولكن وجَدْنا الآيةَ لا تقتصرُ في ذكرِ السببِ على تأمينِ مساجدِ المسلمينَ، بل ذَكَرتْ دُورَ العبادةِ الأخرى لليهودِ والنصارى والمجوسِ، فهل يعني ذلك أنَّ المسلمَ كما يُقاتلُ من أجلِ تأمينِ المساجدِ، عليه كذلكَ أنْ يُقاتلَ أيضًا لتأمينِ حريةِ العبادةِ في الكنائسِ والمعابدِ وغيرِهما؟ وقد تَدهَشونَ لو قلتُ لكم: نعم، وإنْ تَعْجَبوا فاعجبوا لدِينٍ يدفعُ أبناءَه للقتالِ من أجلِ دينِهم وأديانِ الآخرينَ على سواءٍ. استمع معي إلى تفسيرِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما لهذه الآيةِ حيثُ يقـولُ: «يدفَـعُ اللهُ بديـنِ الإسلامِ وبأهلِه عن أهلِ الذِّمةِ». وقـد علَّلَ الفيلسوفُ المسلمُ فخرُ الدِّينِ الرازيُّ (ت. 606هـ) إدراجَ الكنائسِ والمعابدِ مع المساجدِ في خطةِ الدفاعِ الإسلاميِّ في القرآن - بأنَّ الصـوامعَ والبِيعَ والصلواتِ مواضعُ يجري فيها ذكرُ اللهِ تعالى، فهي ليست بمنزلةِ المعابدِ الوثنيةِ. فالآيةُ الكريمةُ وهي تأذَنُ بالقتالِ دفاعًا عن مواضعِ العبادةِ لا تأخُذُ في حُسبانِها المساجدَ فقط، وإنَّما تنظُرُ كذلك إلى أماكنِ العبادةِ الخاصَّةِ بغـيرِهم. فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب | شيخ الأزهر - رئيس مجلس إدارة الرابطة | هـ بـ الى القسم الثالث: http://www.zanayan.org/arabic/articles.php?id=1391&eid=264 |