ماجستير في الفقه الإسلامي
امتَنَّ الله تعالى علينا بوجود المراكب من الخيلِ والبغالِ والحمير، وغيرها من المركبات كالسّياراتِ والقطاراتِ والسّفنِ والطّائرات، ومن المسائل التي ينبغي التنبّه لها في الصلاة، والتي هي من المسائل الحادثة في عصرنا مسألة من أدركه وقت الصلاة وهو راكبٌ على متن طائرةٍ، ولم يكن هناك مجالٌ لتأخير الصلاة إلى حين وصول الطَّائرة الى المطار المقصود في السفر، إذن فما الحكم في أداء الصلاة على الطائرة، إن خشي المصلي فوات وقتها، هل يجوز له أن يؤخِّرها فيصليها خارج وقتها على الأرض، وما هي الكيفية في أدائها، ففي الكثير من الأحيان يحين وقت الصلاة على السائح في سفره بالطائرة ويخشى فوات وقت الصلاة، فكيف يمكنه أداء الصلاة في الطائرة، وبما أنَّ الصلاة فريضة موقوتة بوقت محدد، كان على المسافر التنبَّه إلى وقت الصلاة أولاً !!!
فمن رحمة الله بعباده أنَّ أوقات الصلوات بالنسبة للمسافر ثلاثة أوقات وليست خمسة:
· وقت صلاة الفجر ويبدأ من طلوع الفجر وحتى شروق الشمس.
· وقت صلاتي الظهر والعصر ويبدأ من زوال الشمس إلى غروب الشمس اضطراراً.
· وقت صلاتي المغرب والعشاء ويبدأ من غروب الشمس إلى منتصف الليل.
كيفية معرفة دخول أوقات الصلاة في الطائرة :
يشكل على كثير من الناس معرفة أوقات الصلوات والصيام والإفطار في الطائرة،و يتسائل البعض ، هل بإمكانهم الإعتماد على التقاويم أو الرؤية المجردة، ولتوضيح ذلك نقول :
بأنَّ الشارع علَّق أوقات العبادات الشرعية بعلامات ظاهرة للناس؛ كغروب الشمس، وغياب الشفق، وطلوع الفجر، ونحو ذلك.ويمكن للمسلم معرفة أوقات العبادات الموقوتة بأحد الأمريين:
1- أن يرى العلامات الظاهرة بنفسه كما قال الله تعالى: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ{.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا غابت الشمس من ها هنا، وجاء الليل من ها هنا، فقد أفطر الصائم"(1)، ويقاس الصلاة على الصيام برؤية علامات دخول وقت الصلاة كما بينّها الفقهاء.
2- أن يعتمد على إخبار الثقة له بذلك, كما كان يفعل ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وقد كان يؤذن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً أعمى لايؤذن للفجرحتى يقال له: أصبحت.. أصبحت(2)، وعمل الناس بالتقاويم والإمساكيات هو من قبيل العمل بخبر الثقة في دخول الوقت.
والصلاة التي يؤديها المسافر إما فريضة أو نافلة ، فإن كانت الصلاة فريضة فعلى المسافر أن يؤدَّى الصلاة على حسب القدرة والاستطاعة، فإن وجد ماءً وجب عليه التطهر به، وإن لم يجد ماءً أو وجده وعجز عن استعماله، لزمه أن يتيمَّم، إن وجد ترابًا أو نحوه، فإن لم يجد ماء ولا ترابًا، تيمَّم بما يجد من كراسي الطائرة، أو أيّ قطعة منها، عند من يقول بأنَّ هذا مما صعد على الأرض، ثم يصلَّى على حسب حاله؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(4).
وأما استقبال القبلة في الطائرة ، فيمكن تحديد الإتجاهات ومعرفتها عن طريق الآلات المتطوِّرة والبوصلات الحديثة، وبناءً عليه فيلزم المصلي على الطائرة أنْ يتوجه إلى القبلة، إنْ تمكن من ذلك من خلال معرفته بالقبلة، ومناسبة المكان في الطائرة لاستقبال القبلة، وإن لم يتمكن من ذلك فلا حرج عليه. قال في شرح المهذب: « فإن هَبَّت الريح وحوّلت السفينة، فتحوَّلَ وجهه عن القبلة، وجب ردّه إلى القبلة, ويبني على صلاته بخلاف ما لو كان في البر, وحوَّل إنسانٌ وجهه عن القبلة قهرًا، فإنه تبطل صلاته كما سبق بيانه قريبًا, قال القاضي حسين: والفرق أنّ هذا في البر نادر وفي البحر غالب، وربما تحوَّلَت في ساعةٍ واحدةٍ مرارًا»(5).
وهذا هو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فقالت: « يجوز للإنسان أن يصلي على متن الطائرة؛ لعموم أدلة وجوب أداء الصلاة إذا دخل وقتها، ولا فرق في ذلك بين من كان في البر والجو والبحر، ويستقبل القبلةما أمكنه، وإذا حصل انحراف من الطائرة عن القبلة في أثناء الصلاة استمر في صلاته مستقبلاً القبلة ما أمكن، ولا حرج عليه في ذلك؛ لعموم أدلة يسر الشريعة»(6). و جاء في فتوى آخر للجنة نفسها أنَّه إذا حان وقت الصلاة، والطائرة مستمرة في طيرانها، ويخشى فوات وقت الصلاة قبل هبوطها في أحد المطارات، فقد أجمع أهل العلم على وجوب أدائها بقدر الاستطاعة، ركوعاً وسجوداً واستقبالاً للقبلة(7) ، وكذلك أفتى الأزهر بهذه الفتوى(8).
فإن قيل: إنَّ المصلي على الطائرة، حتىّ وإن كان متوجهاً جهة القبلة، إلا أنه في حكم غير المستقبل لها، وذلك لارتفاعه وعلوِّه عنها؟
والجواب: إن الذي يصلي على الطائرة، وإن لم يستقبل عين الكعبة، فإنه مستقبل لهوائها، فكما أن الكعبة قبلة، فإن هواءها أيضًا قبلة، كما هو منصوص عليه في المذاهب المتَّبَعة، وقد نُقِل عليه الإجماع، جاء في حاشية العلامة الشِّلْبي على تبيين الحقائق من كتب الحنفية -« وللمكي فرضه إصابة عينها... أي إصابة عين الكعبة بأنه لو أُخْرج خطٌ مستقيمٌ منه وقع على الكعبة أو هوائها، إذ القبلة هي العرصة إلى عنان السماء حتى لو رُفع البناء وصلَّى إلى هوائه جاز بالإجماع »(9) ، وقال النووي في شرح المهذب: «قال أصحابنا: لو وقف على أبي قبيس أو غيره من المواضع العالية على الكعبة بقربها صحت صلاته بلا خلاف; لأنه يعد مستقبلا»(10). و قالت الحنابلة بأنَّه لا يضر علوٌّ عن الكعبة, كالمصلي على جبل أبي قبيس، ولا يضر نزولٌ عنها, كمن صلى في حفرةٍ في الأرض, فنزل بها عن مسامتتها, لأن الجدار لا أثر له, والمقصود البقعة وهواؤها(11).
وأما أداء الصلاة قائماً في الطائرة، فإن كان المصلي يستطيع أن يصلي قائماً، ويركع ويسجد فيلزمه ذلك، بدليل حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: "سئل النبي - صلى الله عليه و سلم- عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: صلِّ فيها قائماً إلا أن تخاف الغرق"(12)، والشاهد في ذلك قوله:"صلِّ فيها قائماً". قال النووي :« قال أصحابنا: إذا صلى الفريضة في السفينة لم يجز له ترك القيام مع القدرة, كما لو كان في البر, وبه قال مالك وأحمد, وقال أبو حنيفة: يجوز إذا كانت سائرة, قال أصحابنا: فإن كان له عذرٌ من دوران الرأس ونحوه جازت الفريضة قاعدا; لأنه عاجز»(13).
وما قيل أنَّ الطائرة غير متصلة بالأرض فتعليل فاسد الإعتبار، لأنَّ أرض المصلي هي موضع سجوده وركوعه وغير ذلك مما هو من تمام الصلاة، أرأيت لو أنَّ إنساناً صلى على سقف بيتٍ ألم يكن قد صلى على الأرض وقد أجمع العلماء على صحة صلاة من صلى على السقف؟
فعند وجود العذر في القيام، عند أداء فريضة الصلاة في السفينة، يجوز أنْ يؤديها الشخص قاعداً ، وتقاس الطائرة عليها ، فإن كان لا يستطيع القيام في الطائرة لعجزٍ، أو لعدم وجود مكانٍ مناسبٍ للقيام، فله أن يصلي جالساً يومئ بالركوع، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، لقول الله سبحانه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾(14)، قال ابن باز: « الواجب على المسلم في الطائرة إذا حضرت الصلاة أن يصليها حسب الطاقة، فإن استطاع أن يصليها قائماً ويركع ويسجد فعل ذلك، وإن لم يستطع صلى جالساً وأومأ بالركوع والسجود، فإن وجد مكانا في الطائرة يستطيع فيه القيام والسجود في الأرض بدلاً من الإيماء وجب عليه ذلك»(15).
أمَّا إذا دخل وقت الصلاة على المسافر وهو في الطائرة وكان يستطيع أداء الصلاة في وقتها بعد نزوله من الطائرة ووصوله، فالأولى له في هذه الحالة أنْ يؤخـــر الصـــلاة حتى ينزل من الطائرة و وصوله، وذلك لعدم الخوف من فوات صلاته، ويلزمه ذلك إن لم يجد مكانًا يؤدي فيه الصلاة بشروطها وأركانها في الطائرة.
أمّا إذا كانت الصلاة مما يجوز جمعها مع غيرها عند السفر وهي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، وكان يستطيع أداءهما في الوقت جَمْعَ تقديم أو تأخير على الأرض، فالأولى له الصلاة قبل صعود الطائرة، أو بعد النزول منها وذلك لوجود متَّسع من الوقت أمامه ، لأنَّ وقت الظهر والعصر يبدأ للمسافر من زوال الشمس ولا ينتهي اضطرارًا إلا بغروبها ، كما يبدأ وقت المغرب والعشاء من غروب الشمس ولا ينتهي إلا بمنتصف الليل اختيارًا، أو طلوع الفجر عند الإضطرار، فإنْ أمكنه الصلاة قبل السفر أو بعده في الوقت الموسع للصلاتين فذلك أولى.
أمّا بالنسبة لصلاة النفل في الطائرة: فيشرع للمسافر أداء النوافل في سفره على كرسيه يومئ بالركوع والسجود، ولا يلزم في ذلك القيام، كما لا يلزم استقبال القبلة، وذلك لحديث جابر- رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حاجةٍ، قال: فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع(16) ، و حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة(17).
قال الترمذي: « والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً، لا يرون بأساً أن يصلي الرجل على راحلته تطوعاً حيث ما كان وجهه إلى القبلة أو غيرها»(18) ، وقال ابن قدامة: « لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة التطوع على الراحلة في السفر الطويل»(19).
ولم يفرِّق الفقهاء بين قصير السفر وطويله، في جواز أداء صلاة النافلة على الراحلة، لأن إباحة الصلاة على الراحلة تخفيفٌ في التطوع، كيلا يؤدي إلى قطعها وتقليلها، وهذا يستوي فيه الطويل والقصير... قال القاضي: الأحكام التي يستوي فيها الطويل من السفر والقصير ثلاثة: التيمم، وأكل الميتة في المخمصة، والتطوع على الراحلة، وبقية الرخص تختص الطويل – الفطر، والجمع والمسح ثلاثاً(20).
وممّا سبق في البحث يتبيَّن أن الصلاة في الطائرة صحيحة، وأنها تؤدَّى بالكيفية المستطاعة حسب الإمكان؛ لانَّ السفر مَظِنَّة الترخص كما هو معلوم، ولأنَّ الشّرع الشريف دائمًا يرشدنا إلى التّخفيف ورفع الحرج والتّوسعة عند عموم البلوى.
- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من الفتوى رقم: (6275).