في رمضان.. فلسفة الجوع والعطش محمد شاهين كم نحن بحاجة لأن نغوص في أعماق مدرسة رمضان لتجيبنا عن سؤال تسول به النفس بين الفينة والأخرى لماذا نجوع ونعطش؟ لنصل بعد التأمل العميق إلى حقيقة مفادها أن رمضان ليس محطة للجوع والعطش، ومن ينظر إليه من هذه الزاوية الضيقة سيشعر بالضنك، وسيتمنى نهايته بحلول أوله، وسيستحيل رمضانه إلى معارك يومية خاسرة يخوضها مع خلق الله تستفزه أصغر المواقف، وتستثيره أقل الكلمات. ولكن من يدرك أن الجوع والعطش هما وسيلتان لكبح جماح النفس التي من طبيعتها أن تنال ما تتمنى، وتحصل على ما تريد وقتما تريد ستراه يستلذ بالصوم؛ لأنه يشعر بالانتصار الحقيقي كل يوم، وسيستحيل رمضانه إلى معركة حقيقية يخوضها مع النفس لتربيتها وتزكيتها، والسيطرة عليها وتطويق نزواتها وشرورها بعد عام من التمرد، والملاحقة للشهوات والملذات. وإذا عمقت الغوص ستجد أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد في رمضان؛ فبعد كبح جماح النفس وتربيتها تبدأ مرحلة أشد من الأولى، وهي القسوة عليها من خلال تكثيف الطاعات والقربات، وزيادة الركعات والسجدات، وتطهيرها بالإنفاق والصدقات حتى تستسلم لصاحبها، وترفع الراية البيضاء، وتأخذ حجمها الحقيقي، وكلما زاد الاجتهاد من صاحب النفس في هذه المرحلة ازدادت قوته ونشاطه وعظم اندفاعه وجهاده في الحياة لإرضاء الله، وضعفت المقاومة منها طوال العام. وهذه الفلسفة -باختصار- هي التي تحدث التغيير الإستراتيجي في الواقع؛ فالانتصار على النفس عند مجموع أفراد الأمة الواحدة -بالمجمل- يعني اقتراب النصر بل إن النصر عندها سيكون محققا لا محالة. والانهزام أمام قوة النفس ومتطلباتها سينعكس مباشرة على الواقع على شكل رسائل من القهر والظلم والاحتلال والاستبداد، وهذه الرسائل جزاء من جنس العمل؛ فهي تقابل الظلم للنفس بإعطائها كل ما تطلب وتشتهي. فيا ليتنا نعي أن الجوع والعطش -بالمعنى التربوي الرمضاني- هما اللذان يرسمان خط سير النصر، وهما في الوقت ذاته يعيدان برمجة النفوس بعد حلول مجموعة من الأعطال القسرية أو الاختيارية فيها. فمغزى الجوع والعطش القمع للنفس وإضعافها، ولما فهم الجيل الأول هذا المغزى، وأخذوا هذه الحكمة من رمضان، وعاشوا في ظلالها عاما بعد عام رأيت قوتهم تتضاعف يوما بعد يوم، وأحسست أنهم طفرة في التاريخ لن تتكرر، ورأيت منهم الرجل بألف، بل كانت طاقتهم الخارقة للعادة في رمضان تقودهم إلى حد أبعد من تأديب نفوسهم إلى تأديب المعتدين على الحياض والحرمات. وليس بيننا وبين أن نكون من سلالة تلك الطفرة إلا أن ننتصر في معركة الجوع والعطش، ونستثمر هذا الانتصار ونحافظ عليه طوال العام، ونأخذ على يد أنفسنا لنأخذ بعد ذلك على يد أعدائنا. |