لأستاذ الدكتور /عبد الرحمن المراكبى من القضايا التى شغلت فكر المسلمين يوماً ما , وأثارت جدلهم , بل وفرقت جمعهم , وحكمٌت السيف بينهم... وهى اليوم تشغل فكرهم , وتثير اهتمامهم , بل تستنفد جهودهم , وتستنزف ثرواتهم , وتقض عليهم مضاجع أمنهم واستقرارهم , حتى اصبحت حديث الناس , وقضية العصر : قضية التكفير والحكم على المسلمين,, حكاماً ومحكومين بالمروق من الدين , والخروج عن الإسلام , لمجرد المخالفة فى الرآى , أو الاختلاف فى الانتماء والفكر , أو الاجتهاد فى الفتوى والحكم ..وما يتبع ذلك ,وما يترتب عليه من تطرف فى السلوك , وإرهاب فى التطبيق , حتى اصبحت هذه القضية وما يترتب عليها مثار خلاف ومادة جدل بين المسلمين , وأضحى الناس بشأنها فى أمر مريج. وهى قضية حسم العلماء بشأنها الخلاف منذ أمد بعيد يوم أثيرت على أيدى الخوارج الحروريين , وانعقد إجماع العلماء على أن من سبق له عقد الاسلام بيقين , لايجوز إخراجه منه الإ بيقين مثله , لأن اليقين لايزول بالظن – فضلاً عن الشك أو الوهم – وإنما يزول باليقين . أما القيام برأى , أو عمل , أو اجتهاد أراد صاحبه الحق فأخطأه , فليس مبرراً للتكفير , ولا مسوغاً للإخراج من الدين. وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالكف عمن قال لا اله الإ الله ( لانكفره بذنب , ولانخرجه عن الإسلام بعمل ) رواه ابو داود , وقد تواترت النصوص بإسلامه وعدم تكفيره بما لايدع مجالاً لمرتاب , ولاحجة لمخالف. ورغم هذا فقد أثيرت هذه القضية فى العصر الحاضر بصورة تلفتنا الى الفكر (الخارجى) ونعود بالذاكرة الى هذا الخلاف الذى احتدم بين المسلمين فى أول عهد الاسلام , وتحولت فيه المواجهة الفكرية الى مواجهة مسلحة , أريقت فيها الدماء على ايدى الخوارج (الشراه) كما كانوا يسمون انفسهم , وكأن تاريخ الأمس يعيد نفسه , ويكرر ما سبق من مآسيه..فإذا بالانحراف الفكرى اليوم يتحول الى انحراف فى السلوك والتطبيق , وينقلب من فكر الى عنف , ومن رآى الى قتل , ومن إقناع الى إرهاب وترهيب , وترويع للآمنين الواعين من المؤمنين , أو المستأمنين من المخالفين فى العقيدة والدين , أو الحكام والسياسيين والى تخريب وتدمير.. والحقيقة : أن هذه الظاهرة ليست - كما يصورها البعض , أو يتصورها – حدثاً عابراً يمكن أن نهوٌن من شأنه , أو نغض الطرف عنه. وليست قضية , أو مشكلة مستعصية تأبى على الحل أو العلاج , حتى ندعو الى مواجهتها بالعنف , ومقابلة أصحابها بالقوة. وإنما هى مشكلة متوطنة , وقضية معقدة , بعيدة الأصول , عميقة الجذور , تحتاج منا الى رؤية صحيحة, ونظرة عميقة وخطة مدروسة , وبصيرة نافذة.. وتحتاج من ثم الى صبر ومثابرة , ومواجهة دائمة ومستمرة فى جميع مجالات الحياة : العلمية والفكرية والدينية والتربوية والتوجيهية والثقافية : فى المدرسة والجامعة , وفى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة , وفى المساجد ومن فوق المنابر , وفى الندوات والمنتديات , وفى المؤتمرات والملتقيات : العلمية , والفكرية والدينية , وبالأبحاث الجادة والرسائل العلمية وغير ذلك من المجالات حتى يمكن محاصرة هذا الفكر الخاطىء , ومواجهته بفكر صحيح مدروس. أما مواجهة هذا الفكر بالقوة – بحجة أن الأمة قد استنفدت جهودها , ونفذ صبرها وإن هؤلاء قد اصموا آذانهم , واستغشوا ثيابهم , وأصروا على فكرهم , وأغلقوا عليه قلوبهم وعقولهم , فهى نظرة ضيقة محدودة , لأنه من المعروف : أن القوة مهما كانت لاتستطيع أن تغير عقيدة ولاأن تصلح فكراً , لأنه لاسلطان للقوة على غير ظاهر الإنسان , أما باطن الإنسان من العقل والقلب والصبر فلا سلطان عليه لغير الاقناع والحجة . ان مواجهة الفكر بالعنف او مواجهة العنف بالعنف سيقابل بالتحدي مادام الخصم قويا عنيدا يستطيع التحدي ، وسيقابل بالخديعة والمكر والخيانة اذا وهنت قوتة او ضعفت حيلته ..ومن ثم تتشكل الجماعات ، والجمعيات السرية ، التي تخطط في الظلام وتتحالف مع الشيطان ، وتستعين بالخصوم والاعداء .. الخ وهذا ما نراه اليوم واقعا ، ومارأيناه علي مدي التاريخ البشري كما ان قطاعا كبيرا من بناتنا وشبابنا الذين يمثلون صحوة اسلامية مباركة فظاهرة ايجابية متحركة وفاعلة تحتاج منا الي التأييد والتشجيع والترحيب وسيتحولون مع استخدام القوة الي ادوات طيعة في يد هؤلاء الذين يستقطبونهم ، ويستحوذون علي فكرهم ، ويضربون علي الوتر المشدود لديهم وهو (الدين) وهم يحاولون بشتي الوسائل اغراءهم ..في الوقت الذي لا تهادنهم فيه القوة ، ولا يرحمهم فيه المجتمع ، ولا تكف وسائل الاعلام عن التشهير بهم ، والاتهام لهم ، واستعداء السلطة عليهم ، ولا يكف اصحاب الاتجاهات المشبوهه والاقلام المأجورة عن التنديد بهم مما يثير شعورهم ، ويوغر صدورهم ، ويؤجج حقدهم علي الناس والمجتمع ،بهذا يتم التحول ، ويتم الاستقطاب ..ويحاول البعض للاسف – عامدا او جاهلا لسبب او لغيره – ان يخلط الاوراق ، فلا يفرق في اتهامه بين اتجاهات اسلامية صحيحة فاعلة ، واخري مشبوهة ، او مأجورة ، او مخدوعة هي ابعد ما تكون عن روح الاسلام ، وسماحة الدين ، ولا يجوز بحال من ان ينسب فعلها اليه ، ولا ان يحسب فكرها عليه . لهذا وغيره كان لابد من فتح ابواب الحوار لهؤلاء ، ولابد من اعطاء الشباب مزيدا من الحرية ، ومزيدا من الوقت ، ومزيدا من الاهتمام بهم ، والاطلاع علي فكرهم ، ومعرفة الدواء الناجع لادوائهم وعللهم. ولابد مع ذلك من ووضع المشكلة في حجمها الصحيح دون تهوين او تهويل ، والوقوف علي ابعادها ، والفصل بين الاتجاهات المختلفة بشأنها حتي لاتختلط الاوراق ، وتتعقد المسائل ، وحتي يقع العلاج او الدواء موقعه الصحيح من الداء. ولابد من تصحيح الرؤية الاسلامية امامهم ، وضع القضية بجملتها في ميزان الاسلام الصحيح ، وحكم الكتاب والسنة والاحتكام اليهما لتعرية الفكر الخاطئ وتاثيم السلوك المنحرف ، ووضع اقدام الجميع علي الطريق السليم للوصول الي النتائج المرجوة. ان معالجة القضية بفكر ووعي ، ومقابلة الفكر الخاطئ بفكر صحيح هو – في نظرنا- أهم وأولي من تعقب هؤلاء في بيوتهم واماكن لقائهم وتجمعهم ، والنظر اليهم بعين العدو الذي نتربص به ويتربص بنا، ونكيد له ، ويكيد لنا وان كنا لا نقلل من شأن القوة في الاوقات التي تدعو الضرورة اليها وبالقدر الذي تندفع به هذه الضرورة . من اجل ذلك قام فالازهر الشريف بدوره في علاج هذه المشكلة المعقدة حتي لا تتفرق بشأنها كلمة المسلمين كما حدث في القديم وحتي لا تشوه بسببها صورة الاسلام في نظر المسلمين وغير المسلمين . وحتي لا يطوع الاسلام او يستخدم في تحقيق المأرب المشبوهة ، وتبرير السلوكيات المنحرفة بتأويلات فاسدة ، وفهم سقيم. وحتي لا يغدو الاسلام حمي مستباحا يستبيح كل من يعلم ، ومن لا يعلم: حرمه وحماه. وحتي يدعوى هؤلاء الذين يجترءون علي الفتوي بالتكفير واخراج المسلمين من الدين ، ويستبيحون بذلك دماءهم واموالهم وحتي لايجد المتربصون بالاسلام ثغرة ينفذون منها الي مايريدون من الكيد للاسلام والفتنة والوقيعة بين المسلمين . في سبيل ذلك قام الازهر ورجاله بمواجهة هذا الفكر الضال والالتقاء بقادته مباشرة في حوارات صريحة ، وعقد اللقاءات والمؤتمرات ، واصدار كثير من الكتب والنشرات .. وكان منها هذا الكتاب الذي سوف نعرضه تباعا بعد هذه المقدمة في إيجاز غير مخل بمشيئة الله تعالي وهو عنوان (قضية التكفير والحكم علي المسلمين من التطرف والاعتدال ) * وكيل كلية أصول الدين بالمنوفية ورئيس قسم العقيدة والفلسفة سابقا. |