يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم. وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء، يوم العاشر( رواه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:(عاشوراء يوم العاشر( رواه الدارقطني. وقال القرطبي:(هو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل:(يوم عاشوراء) فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علَماً على اليوم العاشر). وقال الزين بن المنير:(الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية). ما ورد في صيامه: 1.عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:(ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشّهر، يعني رمضان( رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر:(هذا يقتضي أنّ يوم عاشُوراء أفضلُ الأيّام للصّائم بعد رمضان، لكنّ ابن عبّاس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرُدُّ علم غيره، وقد روى مُسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً:(إنّ صوم عاشُوراء يُكفّر سنةً، وإنّ صيام يوم عرفة يُكفّر سنتين)، وظاهره أنّ صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشُوراء... وإنّما جمع ابن عبّاس بين عاشُوراء ورمضان -وإن كان أحدُهُما واجباً والآخر مندُوباً- لاشتراكهما في حُصول الثّواب؛ لأنّ معنى (يتحرّى) أي:يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرّغبة فيه). 2.وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم. 3.وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهليّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال:(من شاء صامه، ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم. قال النووي: (اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنّة ليس بواجب، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه). 4. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظّمه اليهود وتتّخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صوموه أنتم) رواه البخاري ومسلم. قال النووي: (والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكداً، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكيد، والله أعلم). 5.وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النّبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:(ما هذا؟) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم؛ فصامه موسى، قال:(فأنا أحقّ بموسى منكم). فصامه وأمر بصيامه( رواه البخاري ومسلم. قال الحافظ ابن حجر:(قوله: (قدم النّبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم) في رواية لمسلم:(فوجد اليهود صياماً)... وقد استُشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، وإنّما قدم المدينة في ربيع الأوّل، والجواب عن ذلك أنّ المراد أنّ أوّل علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة لا أنه قبل أن يقدمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفاً تقديره: قدم النّبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صياماً، وفي حديث عائشة التّصريح بأنّه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصّة أنّه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أنّ أهل الجاهليّة كانوا يصومون كما تقدّم، إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السّبب في ذلك). وقال في (عون المعبود( في قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بمُوسى):(أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى صلى الله عليه وسلم منكُم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وأنتُم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف). 6.وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (لمّا صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا:يا رسول الله، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى، فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التّاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم( رواه مسلم. 7.وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من (أسلم) أن أذِّن في الناس أن من أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإنّ اليوم يوم عاشوراء( رواه البخاري ومسلم. 8.وعن علقمة أنّ الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يطعَم يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن اليوم يوم عاشوراء! فقال: (قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلمّا نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطراً فاطعَم( رواه البخاري ومسلم. 9.وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر) رواه البخاري ومسلم. 10.وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه مسلم. قال ابن القيم: (إن قيل:لِمَ كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل:فيه وجهان: أحدهما:أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء. الثاني:أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم، والله أعلم). 11.وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده( رواه مسلم. 12.وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة:(من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه)، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار). وفي رواية: (ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم( رواه البخاري ومسلم. قال النووي: (العهن: هو الصوف مطلقاً، وقيل: الصوف المصبوغ... وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين). حكم صيامه: أولاً:حكمه قبل أن يُفرض رمضان: اختلف في ذلك على قولين: القول الأول:أنه كان واجباً، وهو قول أبي حنيفة، ووجه عند الشافعية، وروي عن الإمام أحمد. واستدلوا:بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من (أسلم) أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإنّ اليوم يوم عاشوراء( رواه البخاري ومسلم. وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت:كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهليّة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال:(من شاء صامه، ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم. القول الثاني: أنه لم يزل سُنَّة من حيث شرع، ولم يكن واجباً قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحباً دون ذلك الاستحباب، وهو أشهر الوجهين عند الشافعية، وإليه ذهب القاضي وقال: هذا قياس المذهب. واستدلوا: بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن هذا يوم عاشوراء،ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر). وردّ ذلك الحافظ ابن حجر فقال: (قوله:(ولم يكتب عليكم صيامه.. إلخ) استُدل به على أنه لم يكن فرضاً قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)البقرة/183، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني، ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، ويقول ابن مسعود: الثابت في مسلم: لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم: المتروك تأكُّد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باقٍ، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول:(لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر)، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟!). ثانياً:حكمه بعد أن فرض رمضان: صيام عاشوراء بعد أن فرض رمضان سنة وليس بواجب، ونقل النووي الاتفاق على ذلك. وقال: (قال القاضي عياض: وكان بعض السلف يقول: كان صوم عاشوراء فرضاً، وهو باقٍ على فرضيته لم ينسخ، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب، وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للأحاديث، وأما قول ابن مسعود: (كنا نصومه ثم ترك) فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب). وضعَّف الحافظ قول من قال: إن المراد بالترك في كلام ابن مسعود: تَرْكُ تأكُّد الندب، والصحيح أن المتروك هو الوجوب، وأما تأكد الاستحباب فباق، والله أعلم. الحكمة من صيامه: يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجّى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله تعالى، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال:(نحن أحقّ بموسى منكم). فرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هم أولى الناس وأحق الناس بموسى عليه السلام وبسائر الأنبياء والمرسلين، لأنهم آمنوا بما جاءت به الرسل ولا يفرقون بين أحد منهم، يؤمنون بهم جميعاً، ويحبونهم ويعظمونهم ويحترمونهم، وينصرون دينهم الذي هو الإسلام لله رب العالمين. فصيام يوم عاشوراء سَنَّهُ نبينا صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ورغّب فيه، وفي ذلك من الحكم الكثير ومنها هذه الحكمة العظيمة، وهي أن دين الله تعالى واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث لإقامته، فهو ليس بدعاً من الرسل، بل جاء مصدِّقاً لما قبله من الكتاب، وأن الرسل إخوة لعلات، دعوا إلى الإسلام الذي أساسه توحيد الله تعالى والإخلاص له، وأنه لا عصبية في الإسلام، وفي ذلك أيضاً أكبر علامة على عالمية هذا الدين وسعة الرحمة فيه، يقول الله تعالى -لنبيه صلى الله عليه وسلم-:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين) الأنبياء/107. هل يُكره إفراده بالصوم؟ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى، فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. قال ابن تيمية: (لا يكره إفراده بالصوم، ومقتضى كلام أحمد أنه يكره، وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة). قال الحافظ ابن حجر: (ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه على اليوم العاشر إما احتياطاً له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم، ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، وهذا كان في آخر الأمر. وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم:(لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) يحتمل أمرين: أحدهما:أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني:أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين. وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر، والله أعلم). وقال ابن القيم: (والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لا نقل اليوم، لما روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:(خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده). وقال: (فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم، وأما إفراد التاسع فَمِنْ نَقْصِ فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب |