إن رقي الأمم ونهضتها، ومصدر حضارتها وتقدمها يكمن في مكارم أخلاقها إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا والأخلاق ركن من أركان المروءة كما يقول الشافعي رحمه الله: للمروءة أربعة أركان: حسن الأخلاق، والتواضع، والسخاء، والنسك. وقدوتنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جمع فيه الله تعالى الفضائل والكمالات، وصفه رب العزة بهذا الوصف الجليل: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم/4. دخل على النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي جلف يقول له: أعطني يا محمد من مال الله، فإن المال ليس مال أبيك ولا أمك، فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم، المال مال الله والأرض أرض الله والناس عباد الله)، كان هذا ردّ النبي صلى الله عليه وسلم في حِلْم وأناه دون أن يغضب أو يثور، وأمر صلى الله عليه وسلم له بقدر من الطعام وأخذه الأعرابي وهمّ بالانصراف، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استوقفه ليحاسبه بأدب على ما فرط منه، فقال له الأعرابي: كيف تحاسبني على ما أسأت وأنت الذي قال الله تعالى فيك: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )، فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وعفا عنه. ويتفاوت الناس في حسن الأخلاق، فكف الأذى عن الناس ومعاملتهم بالحسنى والإحسان للجيران هذا خلق جميل، والأجمل منه أن يصبر على أذى الآخرين، وأن يكون عنده قوة على احتمال الأذى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ) [صحيح البخاري]. فصاحب الخلق العظيم يتحلى بالصبر والحلم وسعة الصدر، وهو مالك لنفسه وقابض على زمامها، وفوق ذلك يكون عنده صفح وعفو وإعراض عن الجاهلين إني صائم، وهذا الذي أتى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ).[صحيح البخاري]. وبيّن الحقّ عز وجل أن صاحب الخلق العظيم هو الذي يستطيع بقدرته ولطفه دفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو، قال الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت: 34- 35. نعم لا يمكن أن يتساوى فعل الحسنة مع فعل السيئة بل بينهما فرق عظيم في الجزاء وحسن العاقبة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) توجيه ربّاني إلى دفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. والدفع بالتي هي أحسن: صلة من قطعك، والإحسان لمن أساء إليك، والحلم عمن جهل عليك، فإذا فعلت ذلك صار عدوّك كالصديق القريب الخالص الصداقة في مودته ومحبته، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وما يصل إليها وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة والخير. يحدثنا أرباب السير أن الأحنف بن قيس رضي الله عنه، كان يسير في طريقه يوماً فتبعه رجل سوقي يسبه ويشتمه في بذاءة وفحش وقلة أدب، والأحنف يستمع إليه، ماضٍ في طريقه لا يرد عليه، ولا يلتفت إليه، إلى أن صار قريباً من مضارب قومه، فوقف الأحنف ثم التفت إلى السّباب قائلاً له: لقد صرنا الآن قريباً من مضارب قومي، وأخشى أن يراك أحد منهم فيؤذيك، وها أنا واقف لتفرغ ما في جعبتك من سباب وشتائم...، شعر السوقي بيقظة ضميره، وأخذ يتصبب عرقاً، وخجل خجلاً شديداً، ثم اندفع نحو الأحنف، فانكب على يديه يقبلهما وهو يبكي ويتأسف ويطلب الصفح والعفو، وعاهد الله على أن لا يعود إلى مثل ذلك مع أحد من الناس أبداً. |