أ. د شوقي علام؛ مفتي الديار المصريةغرس الإسلام في شخصية المسلم الشعور الصادق بالاعتزاز بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يقوى أمام أيّ إغراء، ويزداد صلابة تجاه أيّ ضغط، ويرى سنن الله الجارية في الكون مستبشرًا بالغلبة والنصر عند حدوث الهزيمة، ويستدعي مظاهر الفرج وقت نزول الشدائد، وفق المسارعة في التوجه الخالص إلى الله تعالى والتقرب إليه بعمل الخيرات وأنواع القربات بضوابط التقوى التي تمثل غاية الوصول إلى الرضوان والنعيم المقيم. وهذه المعاني تُؤكد للمسلم أن مَرَدَّ الأمر كله لله تعالى، فلا ينخدع وراء الشهوات ولا ينهزم أمام علوّ غيره عليه، ولا يلتمس العزة من غير اللجوء إلى الله تعالى ومن غير طريق الانضباط بالشرع الشريف مقاصد وأحكامًا في القول والعمل والسلوك، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]. ورغم أن هذا المعنى يمثِّل قيمة راقية تؤخذ مع غيرها كما جاء في مقررات الإسلام، فقد اختزلها أهل التطرف وجماعات التشدد من دلالاتها ومعانيها فجعلوها مصطلحًا سياسيًّا تحت مسمى “الاعتزاز بالإيمان” أو “الاستعلاء بالإيمان”، متخذين من هذه الصياغة مرتكزًا حركيًّا وركنًا لأفكارهم وآرائهم الباطلة، ومن ثَمَّ تحولت إلى العديد من أنماط السلوك لدى هؤلاء ونراها قائمة على التعالي على كل قيمة وعلى كل أحد؛ فضلًا عن تضمنها ممارسات العنصرية ضد الآخر، ثم يبرر بها هؤلاء العنف والقتل والكراهية تجاه غيرهم -بحسب زعمهم- باعتبار أن ذلك منهجًا إسلاميًّا، بل باتت طريقة معتمدة للعمل الحركي من أجل الدين الذي احتكروا منهجه الصحيح وحقيقته الشرعيَّة المطلقة، ومن ثَمَّ حصروا كل مدحٍ واردٍ في الأدلة الشرعيَّة عليهم. ولا يَقِل هذا الخلل في تناول هذا المفهوم خطورة عن مرتكزاتهم الفكرية الأخرى كـ”المجتمع الجاهلي”، و”الحاكمية”، التي من لوازمها إطلاق القول بتكفير الأمة والتأسيس للخروج بالسلاح على بَرِّها وفاجرها؛ لأنه قد أفرز مفاسد جسيمة: بدءًا من الانعزال وترك المشاركة والتعايش مع الأمة في حياتها الاجتماعية ومسيرتها، ومرورًا بشَق الصف وحدوث الفرقة بين أفراد المجتمع بل بين أبناء الأسرة الواحدة، واتخاذ المرجعية الموازية للمؤسسات المستقرة منذ قرون، وانتهاءً بصبغ مواقفهم وأفكارهم بأنها مصدر الحق المطلق، وأن الانتهاكات الجسيمة الموجهة ضد الدين والمال والعِرض التي يمارسها هؤلاء هي من قبيل الاستعلاء بالإيمان في مقابل ضلال الآخرين الدائم حتى شاعت الحروب والفتن وانتشر تخريب العمران وسفك الدماء، وكل هذا يُفْعَل زورًا وبهتانًا تحت شعار “عزة الإيمان”. كما أنهم قد اتخذوا من هذا المفهوم وسيلة لإشعال حماس العامة وسياجًا قويًّا لترسيخ الطاعة العمياء التي تجعل من أتباعهم أناسًا يزدرون المجتمع ويجحدون الوطن، وأفرادًا عاجزين عن المساهمة في استقرار المجتمع ودعم وجود الدولة، فلا يقبلون التعايش ولا يؤمنون بالحوار، بل إن الصياغات الملتبسة لهذا المفهوم أنتجت من هذه الجماعات طوائف شتَّى متفرقين؛ فواحدةٌ تعتقد أنها الحاملة للواء الجهاد حتى تعود الخلافة والشريعة، وثانيةٌ تزعم أنها تحمل لواء الإصلاح السياسي، وثالثةٌ تدعى حمل راية أهل السنة والجماعة، ورابعةٌ ترفع شعار الانتماء للعلم الشرعي والدعوة.. وهكذا. وما أوقعهم في هذه المفاسد إلا عدمُ إدراك واقع الأمة وقلة إلمامهم بالحقائق الشرعيَّة والمقاصد المرعيَّة، فضلًا عن النظرة المتعالية والشعور بالخصوصية والتميز، وهي صفاتٌ مذمومةٌ شرعًا وعقلًا؛ لكونها تؤسس للعنصرية التي حذَّر منها الشرع الشريف، والأصل أنه لا يتأتى التعايش مع الخلق -كما أمر الله تعالى- إلا بالتواضع والرحمة والرفق والإيثار وترك الكبر وإحسان الظن وعدم الاغترار بمنزلةٍ أو بشيءٍ مما اختصه الله تعالى به حتى لا يرى في نفسه أيّ مزيةٍ على أحد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي -التعدي والاستطالة- أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (صحيح مسلم). |