الدكتور : حمد الله الصفتي ... باحث إسلامي لاحظنا ـ منذ زمن ليس بالقريب ـ كثرة الحديث والكتابات التي تتناول الدَّعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي والفتوى، حتى غدا هذا الحديث ظاهرة فكرية لم تلبث أن تطوَّرت لدى البعض، لتصبح دعوة إلى تجديد أصول الفقه، حتى يكون الفقه والفتوى والأصول التي تُبنى عليها ملائمةً ـ في نظر أصحاب هذه الدعوة ـ لرُوح العصر. ويا ليت التجديد يقف في نظر هؤلاء عند حدِّ إعادة الفقه الإسلامي إلى حُضوره وفاعليته في الحياة، والعمل على إزالة ما علِقَ به من صدأ أو غبار نتيجة الترك والإهمال، بحيث يرجع جديدًا، ولكن التجديد عند بعضهم مرادفٌ للتغيير والتبديل، والحذف والزيادة. إن حديث التجديد الذي رواه أبو داود، والطبراني في «الأوسط»، والبيهقي في «المعرفة» وغيرهم، واتفق الحفاظ على صحته، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»، ليس فيه ـ على حدِّ فهمي ـ دعوة إلى التجديد المذكور من قريبٍ أو بعيد، وإنما هو إخبار بأن الله تعالى قد تكفَّل للأمة بإرسال من يُعيد للدين بريقه وحيويته في حياة الناس إذا تغافلوا عنه، وإنما كان على رأس كل مئة سنة؛ لذهاب العلماء فيه غالباً، واندراس السُّنن، وظهور البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد، وهو لا يبرر ـ فيما أرى ـ تطاول الأعناق لادعاء هذه المرتبة؛ دون العمل على تحقيق هذا المعنى. لقد كان من نتيجة الدعوة إلى التجديد المذكور صدور كثير من الفتاوى التي خرج فيها أصحابها عن أحكام الشريعة الغراء التي استقرَّ عليها عمل جمهور المسلمين في شتَّى أقطار الأرض من سالف العصور، هذا في مجال الفتوى. أما في مجال الدِّراسات الفقهية، فكانت أصداء دعوة التجديد أوسع وأرحب، ولقد رأينا كثيرًا من الكُتَّاب يُلِحُّون في كتاباتهم وأبحاثهم على ضرورة التجديد، وفتح باب الاجتهاد الذي قال بإغلاقه «المذهبيون المتعصِّبون»، زعموا! بَيْدَ أن المتأمِّل في هذه المؤلَّفات والفتاوى يُدرك لأوَّل النظر صدورها لا عن منهج علمي واضح المعالم، سليم البنيان، تنسجم فيه الفروع مع الأصول؛ لتكون الثمار الناتجة عن ذلك سليمة صحيحة. بل ترى من يُبرهن على فتواه بدليل جزئي أو كلي أو قاعدة أصولية؛ يكُرُّ على ذلك الدليل ذاته بالإبطال والتزييف في فتوى أخرى، ناسيًا أو مُتناسيًا تصحيحه له واستشهاده به من قبل. مما يدل على أن صاحب هذا المنهج لا يتبع في الحكم ما أدَّاه إليه الدليل، ولكنه يضع الأحكام الـمُسْبَقة للمسائل، ثم يبحث لها عن أدلة، فما أيَّد الحكمَ الذي اختاره صحَّحه وأثبته، وما خالفه أبطله ونفاه. إن عملية التأليف الفقهي والفتوى لا بُدَّ لهما من ضابط يصون القائم بهما عن الشذوذ، وذلك الضابط هو المنهج المبني على أسس صحيحة، الذي كان ولا يزال موجودًا منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو منهج فَرَضته طبيعة النصوص الشرعية، وطبيعة اللسان العربي الذي جاءت به، والقواعد العقلية الفِطرية التي لا يختلف عليها اثنان. وهو المنهج المتمثِّل في علم أصول الفقه، الذي صيغت قواعده بأسلوب غاية في الدِّقَّة والإحكام، بأيدي الجهابذة من رجال المدارس الفقهية الأربعة التي كتب الله تعالى لها البقاء، والتي اندرج فيها مذاهب الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ومناهجُهم في النظر. إن غياب كثير من الحقائق العلمية المتعلقة بميدان الاجتهاد والفتوى، مع تَشَوُّه جملة أخرى من هذه الحقائق ـ خاصَّة في عصرنا ـ أدَّى بأصحاب مسلك التجديد المذكور إلى الوقوع في سلسلة من المزالق العلمية، والخروج بأقوال وآراء جديدة، لا تبعُد في وصفها عما يُسَمَّى لدى الفقهاء بالأقوال الشاذة والمهجورة، إن لم تكن أكثر من تلك الأقوال غرابةً وشذوذًا. لقد وُجِد مِن علماء المسلمين مَن يرُدُّ على هؤلاء فتاواهم الغريبة وأقوالهم الشاذة، إلا أنهم ركزوا في الردود على مسائل بعينها، أما رأس الداء ـ الذي هو غياب المنهج المنضبط في تناول الفقه والفتوى، والذي يعد المنبع الأصيل لهذه الشذوذات ـ فقلَّ مَن انتبه لإلقاء الضوء على خطورته، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان توضيح الحقائق وتصحيح المفاهيم المتعلِّقة بهذا المجال؛ ليكون الداخل فيه على بصيرة من أمره، ويعرف الكلام المقبول من غيره.
|