الاولاد نعمةٌ من نِعم الله على عبادِه، يهبها لمن يشاء ويمسكها عمن يشاء ولا يقدر هذه النعمة حقَّ قدرها إلاَّ مَن فقدَها، فتجِده يبذُل الغاليَ والنَّفيس في بذْل الأسباب التي بِها يحصل الاولاد، ويركب الصَّعب والذَّلول ويُكْثِر السَّفر والتنقُّل بين الأطبَّاء لعلَّه يُرْزَق بولد وقدْ شرع الله في حقِّ الولد ما يكفُل نشْأَتَه سويًّا في ما يتعلَّق بدينِه ودُنياه، وان نحرص على حمايته والحفاظ عليه، بل حثَّ على اختِيار الزَّوجة الصَّالحة قبل حُصول الولد؛ لأنَّها موطن الحرث ومحضن التربية، وقد رغَّب الشَّارع في طلب الولد؛ فعن معقل بن يسار قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ() فقال: إنِّي أصبتُ امرأةً ذاتَ حسبٍ وجَمال، وإنَّها لا تلِد، أفأتزوَّجُها؟ قال: ((لا)) ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: ((تزوَّجوا الودود الولود؛ فإنِّي مُكاثر بكم الأمم)) رواه أبو داود (2050) بإسناد حسن. لأن أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، وزينة حياتنا، وكما أن للوالدين حقًّا على الأولاد، فكذلك للأولاد حق على الوالدين، وكما أن الله -عز وجل- أمرنا ببر الوالدين، فكذلك أمرنا بالإحسان إلى الأولاد. فالإحسان إليهم والحرص على تربيتهم أداء للأمانة، وإهمالهم والتقصير في حقوقهم خيانة. ولقد تظاهرت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة آمرة بالإحسان إلى الأولاد وأداء الأمانة إليهم، محذرة من إهمالهم والتقصير في حقوقهم قال سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء: 58). ولايكونوا تسميتهم بأسماء سيئة،فهذا من صور التقصير وخلل في التربية وجناية على الأولاد أيضا، وان يكون بعيداً عن التسخط بالبنات، وهذا خلل في التربية وفي العقيدة، بعض الناس إذا رزقه الله بنتًا تسخط بها، وضاق ذرعًا بمقدمها، ولاشك أن هذا الصنيع من أعمال الجاهلية وأخلاق أهلها، الذين ذمهم الله -عز وجل- في قوله: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] (النحل: 58-59). لأن التسخط بالبنات أمر خطير وفيه عدة محاذير، ومنها :أنه اعتراض على قدر الله -عزوجل- وأن فيه ردًا لهبة الله بدلاً من شكرها، وكفى بذلك تعرضًا لمقت الله، أنه تشبه بأخلاق الجاهلية، وأنه دليل على السَّفَه والجهل والخلل في العقل، أنه تحميل للمرأة ما لا تطيق، فبعضهم يغضب على المرأة بمجرد إتيانها بالأنثى، أن فيه إهانةً للمرأة وحطًا من قدرها. ومن صور التقصير في تربية الاولاد كثرة خروج الأم والأب من المنزل إما للأسواق أو للزيارات أو لأداء الوظيفة قد يسبب أحيانا المكث الطويل خارج المنزل، فكم في هذا الصنيع من إهمال للأولاد، وكم فيه من تعريض لهم للفتنة، وكم فيه من حرمانهم من الشفقة والرعاية والعناية، وما أحسن ما قيل:ليس اليتيم من انتهى أبواه مِن همِّ الحياةِ وخلفاه قليلاً إن اليتيمَ هو الذي تلقى له أُمًّا تخلَّت أو أبًا مشغولاً. ومن صور التقصير ايضا الدعاء على الأولاد، فكم من الوالدين -وخصوصًا الأمهات- من تدعو على أولادها، فتجد الأم -لأدنى سبب- تدعو على ولدها البريء بالحمى، أو أن يقتل بالرصاص، أو أن تصتدمه سيارة، أو أن يصاب بالعمى أو الصمم، وتجد من الآباء من يدعو على أبنائه بمجرد أن يرى منهم عقوقًا أو تمردًا ربما كان هو السببَ فيه، وما علم الوالدان أن هذا الدعاء ربما وافق ساعة إجابة، فتقع الدعوة موقعها، فيندمان ولات ساعة مندم، وقد قيل: إن الدعواتِ كالحجارة التي يرمى بها، فمنها مايصيب ومنها ما يخطئ. ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم)). ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا فعل المنكرات أمام الأولاد، كشرب الدخان، أو سماع الأغاني، أو مشاهدة الأفلام الساقطة، أو متابعة المسلسلات التلفزيونية، وكتبرج المرأة أمام بناتها، إلى غير ذلك، فهذا كله يجعل من الوالدين قدوةً سيئة للأولاد، ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا كثرة المشكلات بين الوالدين، فهذا العمل له دوره السيئ على الأولاد، فما موقف الولد الذي يرى والده وهو يضرب والدته؟ ويغلظ عليها بالقول؟ وما موقفه إذا رأى أمه تسيء معاملة والده؟لاشك أن نوازع الشر ستتحرك في نفسه، ومراجل الحقد ستغلي في جوفه، فتزول الرحمة من قلبه، وينزع إلى الشّرِّ والعدوانية، ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا التناقض، كأن يأمر الوالد أولاده بالصدق وهو يكذب أو يأمرهم بالوفاء بالوعد وهو يخلف أو يأمرهم بالبر والصلة وهو عاق قاطع، أو ينهاهم عن شرب الدخان وهو يشرب وهكذا، بل ينبغي أن ينصح لهم ولو لم يكن عاملاً بما يقول، وإنما المقصود بيان أن التناقض بين القول والفعل يفقد النصائح أثرها. ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا ،ترك البنات يذهبن للسوق بلا محرم، ولاشك أن هذا تفريط عظيم وإخلال بالأمانة، فمن الناس من يذهب ببناته إلى السوق فيمكثن فيه الساعات الطوال، يتجولن بين الباعة بدون محرم، مما يعرضهن للفتنة، ويجعلهن يفتن غيرهن، ولو قيل لبعض هؤلاء: لِمَ لا تنزل معهن إلى السوق؟ لقال: أستحي أن يراني أحدٌ! سبحان الله. أتستحي من الناس ولا تستحي من الله؟! أما تخاف العقوبة؟! أما تخشى الفتنة؟! لو كان عندك غنم ما تركتها بلا راعٍ يرعاها، أعرضك أرخص عندك من غنمك؟! أما تخشى عليه من الذئاب الضارية؟! ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا إهمال الهاتف وعدم مراقبته في المنزل: فبعض الآباء لا يلقي للهاتف بالاً، ولا يراقبه أبدًا بل ربما أعطى كل واحدٍ من أبنائه وبناته هاتفًا خاصًا في غرفته، وما علم أن الهاتف إذا أسيء استخدامه أصبح معول هدم وخراب، فكم جر من بلايا، وكم قاد إلى الشرور والمحن، وكم انتهك بسببه من عرض، وكم خَرِب لأجله من بيت. ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا احتقار الأولاد وقلة تشجيعهم، إسكاتهم إذا تكلموا، والسخرية بهم وبحديثهم مما يجعل الولد عديم الثقة بنفسه، قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه، والتشنيع عليهم إذا أخطأوا ولمزهم إذا أخفقوا في موقف أو تعثروا في مناسبة، مما يولد لديهم الخجل والهزيمة، ويُشعر الوالد بالعجب والكبرياء، فيتكون بذلك الحاجز النفسي بين الطرفين، فلا يمكن بعده للوالد أن يؤثر في أولاده. ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا تربيتهم على عدم تحمل المسئولية. فبعض الآباء لا يربي أولاده على تحمل المسئولية؛ إما لإراحتهم أو لعدم ثقته بهم أو لعدم مبالاته في تربيتهم، ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا عدم تقدير المراحل التي يمر بها الولد حتى يصبح رجلاً، فتجد من الوالدين من يعامل الولد على أنه طفل صغير بالرغم من أنه قد كَبر، فهذه المعاملة تؤثر في نفس الولد وتشعره بالنقص. ومن صور التقصير في تربية الاولاد أيضا قلة الاهتمام باختيار مدارس الأولاد، فكم من الآباء من لا يهتم بذلك، فتجده لايسأل عن المدرسة التي سيدرس فيها ابنه، ولا عن المدرسين وسلوكِهم وأخلاقهم، ولا عن المناهج الدراسية، ولا عن نوعيَّةِ الطلاب الذين يدرسون في المدرسة مع ابنه. وإرسالهم للمدارس الأجنبية ، التي تفسد عقائدهم وأخلاقهم، خصوصًا إذا كانوا صغارًا، أو قليلي الحصانة في العلم والتقوى. وأيضا قلة التعاون مع مدارس الأولاد أو انعدامه بالكلية،فكثير من الآباء لايتعاون مع المدارس التي يدرس فيها أولاده، بل ربما لا يعلم أين يدرسون.وأيضا الدفاع عن الولد بحضرته، خصوصًا في المدرسة، فقد يحدث أن يقوم أحد المدرسين أو المسئولين في المدرسة بتأنيب طالب من الطلاب أو عقابه، ثم يأتي والده وقد غضب غضبةً مُضريَّةً، وبدلاً من الحوار الهادئ مع صاحب الشأن، وبدلاً من أن يكون ذلك بعيدًا عن ناظري الولد، تجد الوالد يطلق العباراتِ النابيةَ على الأستاذ أو المسئول، ويصب جام غضبه عليه بحضور ولده، ومن هنا تقل قيمة المدرسة في نفس الولد، ويشعر بالإعجاب بالنفس، فلا يكاد بعد ذلك أن يصيخ السمع للمعلمين والمربين. فهذه بعض مظاهر التقصير في تربية الأولاد، فماذا نؤمل بعد هذا الإهمال؟ وماذا سنحصد من جراء ذلك التقصير؟ أو بعد هذا نطمع في استقامة الأولاد؟ نحيطهم بكل ما يؤدي إلى الانحراف، ثم نرجو بعد ذلك صلاحهم وفلاحهم؟ ومن هنا نعلم أيه جناية نجنيها على الأولاد حين نقذف بهم إلى معترك الحياة في جو هذه التربية الخاطئة ثم ما أسرعنا إلى الشكوى منهم حين نراهم منحرفين أو عاقين أو متمردين ونحن قد غرسنا بأيدينا بذور هذا الانحراف أو العقوق، أين تربيتنا في هذه الأعصار المتأخرة من تربية سلفنا الصالح الذين خرجوا لنا أكرم جيل، وأفضل رعيل لا يدانيهم أحد من بعدهم، ولا يبلغ شأنهم غيرهم. فمن كان وراء هؤلاء الأبطال، ومن الذي صنع هؤلاء الرجال؟ إننا لو سبرنا أحوالهم، وتتبعنا سيرهم لوجدنا أن وراء كل واحد منهم أبًا عظيمًا أو أمًا عظيمةً يربون أولادهم على تطلاب الكمال ونشدان المعالي. * خطيب جامع (سعيد بيران) بدهوك. |