الحمد لله وبعد: ففي هذا المقال، أُشير إلى مسألة مهمة، فيها علاج لموضوع خطير، عسى الله عز وجل أن يوفقنا فيه للصواب وهو: هل يجوز إلغاء أو نفي حكم السبي، أم هل يجوز توظيفه للمصلحة ؟ فأقول: (الرّق) الاسم من الرقيق. والاسترقاق اتخاذ الرقيق. اختلف أئمة المسلمين في استرقاق من لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان فقال أبو حنيفة يجوز استرقاق العجم منهم دون العرب. وقال مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه أنه لا يجوز ذلك مطلقاً. الاسترقاق كان سنة شائعة عند جميع الأمم وهو معروف من القدم لأنه نتيجة الحروب والحروب معروفة من مبدأ الخليقة وكانت قوانين الأمم بالنسبة للاسترقاق في غاية الغلظة والفظاظة حتى أنه كان في بعض البلاد ليس له من الحق ما لبعض الحيوانات الداجنة كالكلب وغيره ولأجل إعطاء القارئ صورة مصغرة عن حالة الرقيق في الأزمنة المختلفة ثم في الإسلام نأتي له على تلخيص حالته في جميع المدنيات السابقة فنقول: (الاسترقاق عند القدماء) كان المصريون يعتبرون الرقيق كآلة للإنتاج أو كأداة من أدوات الزينة فكان يكثر الملوك والكهان والأعيان من اقتناء المماليك للزينة والخدمة، لم يكن للأرقاء أدنى حق مدني في تلك العصور فكان السيد له تمام الحرية في إبقاء أو قتل رقيقه. ولكن هذه القسوة المتناهية تلطفت شيئاً فشيئاً حتى انتهى أمر الرقيق إلى حالة ترضاها روح العدل فقد قضت الشريعة المصرية أن من قتل عبداً قُتل به. أما الهنود فكانت شريعتهم تنص على أن الرقيق لم يُخلق إلا لخدمة البرهمي وذلك أن الديانة البرهمية أتت مقسمةً الهيئة الاجتماعية إلى أربع طبقات أولها طبقة البراهمة وآخرها طبقة السودرا. فالسودرا لم يُخلق في اعتقادهم إلا لخدمة البراهمة وتوفير لذاتهم. حتى أن السودرا لو خلّاه سيده لا تزول عنه صفة العبودية لأي برهمي كان من الهيئة الاجتماعية. وكانت قوانينهم تقضي بقتل السودرا لأقل هفوة فإذا اتفق وسبّ أحد البراهمة أو أحداً من الطبقتين الأخريين كان جزاؤه القتل على أشنع صورة وهو سلّ لسانه وقطعه. وإذا ذكر السودرا أحد ساداته البراهمة بما يشعر بالاحتقار فجزاؤه أن يُدسّ إلى فمه خنجر طوله عشرة أصابع مُحمّى بالنار. وإذا تطاول إلى وعظ البراهمة فجزاؤه أن يُملأ فمه وأذنيه بالزيت المغلي. وإذا تجاسر فيسرق شيئاً من أحد البراهمة فعقابه أن يُحرق حياً. وإذا تجاسر وسبّ أحد القضاة فقصاصه أن يُخترق جسمه بسفود (سيخ) وأن يُشوى على النار. أما الفُرس فكانوا من الأمم المكثرين من الاسترقاق تبعاً لحالة الترف التي كانوا فيها. وكان مقتضى شريعتهم أن السيد ليس له أن يذهب مذهب الغلو في معاقبة عبده من أجل هفوة. ولكنه إن عاد لها بعد أن يكون قد عوقب عليها فله أن يقتله.والصينيون كان مسموحاً لهم أن يعاملوا عبيدهم بأية معاملة شاؤوا ولكن أخلاق الصينيين كانت لا تسمح لهم بالتغالي في هضم حق الأرقاء. وقد صدرت لديهم قوانين في القرن الأول الميلادي تنصح بإحسان معاملة الأرقاء. أما العبرانيون فكانوا أكثر رحمة بالأرقاء فلم يروَ عنهم مثل الفظائع التي رويت عن اليونانيين والرومانيين بل كان العبري يستطيع أن يتخذ إحدى جواريه حليلة له، وقد شوهد أن بعض العبيد تزوجوا ببنات مواليهم. أما اليونانيون فقد بالغوا في احتقار الأرقاء وشايعهم فلاسفتهم الكبار حتى أن أرسطو الذي يعتبر أكبر عقل ظهر في الأقدمين كان يعتبر العبد آلة ذات روح أو كمتاع متمتع بحياة. وكان يقسم النوع البشري إلى قسمين: الأحرار والأرقاء. اليونانيون كانوا يميزون بين الأمم التي يقهرونها ويعتبرون أهلها عبيداً لهم وبين العبيد الذين يشترونهم من الأسواق فالأولون كانوا أرقاء بمعنى الكلمة ولكنهم كانوا تابعين لأرضهم يباعون ويُشْرَون معها. وأما العبيد الآخرون فكانوا تحت رحمة مواليهم لا يحميهم منهم لا قانون ولا عرف. كانت اثينا سوقاً كبيرة للعبيد وكان اليونانيون يُكثرون من اقتناء العبيد لا للخدمة فقط بل لتشغيلهم أيضاً وأخذ أجورهم. اليونانيون وإن لم يستعملوا جميع حقوقهم على عبيدهم فكانوا يهتفون بمعاقبة مذنبهم بكيّهم بالنار على جباههم واجبارهم على إدارة الطواحين بدل البهائم. وكان في بلاد اليونان عبيد معتوقون ولكنهم لم يكن لم أدنى حق مدني فكانوا بمثابة الحيوانات، وكان عليهم أن يؤدوا واجبات معينة لساداتهم ما داموا في هذه الحياة. أما الرومانيون فكانت وجوه الاسترقاق عندهم كثيرة فكانوا يعدون الأمم المغلوبة أرقاء، ويعتبرون الذين يولدون من الإماء أرقاء، وكان في القانون سلطة بها يُجرم الشخص من حريته فيصبح رقيقاً. وكان أسرى الحروب يباعون في روما بأثمان بخسة وكانوا يسرقون الأطفال ليبيعوهم والنساء ليتخذوهن سراري. نعم، إن الرومانيين كانوا يعتبرون الاتجار بالرقيق من المهن الساقطة ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم من شدة العناية بها لأنها كانت تجارة رابحة. وقد كان من عادتهم عرض الرقيق على حجر عالٍ في السوق ليراه كل طالب للشراء وكانوا يبيعونه علناً بالمزايدة. كان الرقيق محروماً من كل حق بل كان معتبراً من الأشياء وكان لسيده أن يبقيه أو يقتله لا يسأله في ذلك أحد فكان من عقوبات الأرقاء إثقالهم بالحديد وإجبارهم على الحراثة أو تعليقهم من أرجلهم ووضع الأجسام الثقيلة في أيديهم، أو ضربهم ضرباً مبرحاً حتى يفارقوا الحياة. ولكن الطباع تلطفت على مر الأيام فنصت الشريعة على وجوب إحسان معاملة الأرقاء حتى أنها كتبت أن من قتل عبده عُدَّ قاتلاً. وأما الاسترقاق عند قبائل الفرنك أصل الفرنسيين فكان في غاية الفظاعة حتى نصّ قانونهم على أن الحر إن تزوج برقيقة وقع في الاسترقاق مثلها، وأن الحرة إن تزوجت برقيق فقدت حريتها كذلك. وكانت قبائل الويزيغوط تشدد النكير في مسألة تزاوج الأحرار بالأرقاء حتى نصّ قانونهم على أن المرأة الحرة إذا تزوجت بعبدها فعقابها أن تُحرق هي وهو حيّين. وكذلك قبائل الاستروغوط فقد كانوا يقتلون المرأة التي تتزوج بعبد. (الاسترقاق عند الأمم المعاصرة لنا) كان الاسترقاق عند الأمم المعاصرة لنا شائعاً الى نحو منتصف القرن التاسع عشر ثم اتحدت الأمم على إبطاله فبطل ولكنه لما كان موجوداً كانت حالة الرقيق فيه سيئة جداً ولم تغن هذه المدنية المادية عن الأرقاء شيئاً. وقد كان القانون الذي شُرع لتفصيل أحوال الأرقاء يُدعى في كل أمة من الأمم المعاصرة بالقانون الأسود. كان من مقتضى القانون الأسود الفرنسي الذي صدر سنة (1685) أن الزنجي إذا اعتدى على أحد الأحرار أو ارتكب جريمة السرقة عوقب بالقتل أو بعقاب بدني آخر. أما إذا أبِقَ العبد فقد نصّ القانون أن الآبق في المرة الأولى والثانية يتحمل عقوبة صلم الأذنيين والكيّ بالحديد المحمّى فإذا أبِقَ الثالثة قُتل. وقتل الآبق كان معمولاً به أيضاً في انجلتره فقد نصت شريعتهم على أن من أبِقَ من العبيد وتمادى في إباقته قُتل. وكان غير مسموح لذوي الألوان أن يحضروا إلى فرنسا لطلب العلم والاستفادة. دام الحال على هذا في فرنسا حتى ظهرت ثورة سنة 1848 فسعت في إبطال الاسترقاق بتاتاً. أما الاسترقاق في أمريكا الجنوبية فكان على غاية الشدة والقسوة. وكان مقتضى القانون الأسود أن الحر إذا تزوج بأمَة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة في المستعمرات. القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والإماتة. وكان يجوز للمالك رهن عبده وأجارته والمقامرة عليه وبيعه ...الخ. كأنه بهيمة وكان لا حق للأسود أن يخرج من الغيظ ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانوني ولكن إذا اتفق واجتمع في شارع واحد أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانوني كان لكل أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم. وقد صرح قانونهم على أن ليس للعبد لا روح ولا عقل وأن حياتهم محصورة في أذرعهم. (الاسترقاق عند النصارى) نص الإنجيل على أن الناس كلهم أخوان ولكنه لم ينص على منع الاسترقاق ولذلك أقرّته جميع كنائس النصارى على اختلاف أنواعها ولم ترَ فيه أقل حرج. وقد ذكر بولس أحد حوارى عيسى عليه السلام العبيد في رسالته إلى الأفسيين وأمرهم بإطاعة مواليهم كما يطيعون المسيح نفسه. وذكر في رسالته إلى تيموشاوس أن الواجب على العبيد أن يبالغوا في احترام مواليهم وخدمتهم ثم نص بأن تلك تعاليم المسيح ووصم بالجهل كل من قال غير ذلك. وأوصى الحواري بطرس الأرقاء في رسالته بأن يخضعوا لمواليهم وأن يخشوهم. هذا ولم يرَ من جاء من باباوات النصارى ولا قدّيسيهم حرجاً من إقرار الاسترقاق حتى قال القدّيس باسليوس في كتابه القواعد الأدبية بعد أن أورد بعض ما جاء في رسالة بولس إلى أهل أفسس: "هذا يدل على أن العبد عليه طاعة مواليه تعظيماً لله عزّ وجلّ". وقال القدّيس توماس في كتابه أن الطبيعة قضت على بعض الناس بأن يكونوا أرقاء واستشهد على نظريته بالشريعة الطبيعية والشريعتين الوضعية والإلهية. وقال القسّيس المشهور (بوسويت) الفرنسي أن من حق المحارب المنتصر قتل المقهور فإن استعبده واسترقّه فذلك منّة وفضل ورحمة. وقد بقي الاسترقاق معتبراً من الأمور المشروعة لدى المسيحيين إلى هذا القرن فقد جاء في دائرة معارف لاروس أن رجال الدين الرسميين يقرّون على صحة الاسترقاق ويسلّمون بشرعيته. ثم قالت: " ولم يسع في على المسلمين حماية أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وتأمينهم على دينهم وعقائدهم وكنائسهم فإن أبوا ناجزوهم القتال فإن غلبوهم عاملوهم بالمعروف" (كما هو في الأصل.). فأين هذا المصدر الوحيد للاسترقاق من مصادره المتعددة عند الرومانيين إذ كانوا يستعبدون أُسارى الحروب وأولاد الإماء والأشخاص المذنبين. ثم إن الجيوش الرومانية كان يصحبها النخاسون لسرقة الذراري واحضار نساءِ للعسكر لقضاء شهواتهم فإن الإسلام يأبى هذه الدنايا كلّ الإباء. وقد وصى الله الإنسان بالإحسان إلى رقيقه فقال تعالى: (وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً). وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام مثل ذلك فروى علي ابن أبي طالب أنه قال: "اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم" وروت أم سلمة أنه قال: "اتقوا الله في الصلاة وفيما ملكت أيمانكم". وروي أن النبي صللا الله عليه وسلم كان يقول وهو مريض: "الصلاة وما ملكت ايمانكم" وكانت هذه آخر كلمة نطق بها في الدنيا. وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أخوانكم خوٌ لكم (أي أخوانكم مماليككم) جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".على أن السيد لو كان زاهداً متقشفاً لم يحل له أن يجبر عبده على الاكتفاء من الطعام واللباس بمثل ما يأكله ويلبسه بل عليه أن يوفيه حقه منها. قال الإمام النووي يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص سواء كان من جنس نفقة السيد أو فوقه حتى لو قتّر على نفسه تقتيرا خارجاً عن عادة أمثاله زهداً. (الاسترقاق عند المسلمين) الإسلام لم يُحرم الاسترقاق ولكنه حصره في دوائر ضيقة وأوجد في العلاقات التي بين الإنسان ورقيقه مالم يكن موجوداً من أواصر الإنسانية، وحبب في العتق حتى يُخيّل للرائي أنه يشير من طرف خفي إلى كراهته لوجود الاسترقاق وقرر للأرقاء حقوقاً لم تكن لهم من قبل لم يحلم بها واضعوا القوانين السوداء الذين جاؤوا بعد الإسلام بأكثر من ألف عام وقد علم ذلك مؤلفوا الفرنج فقال العلامة غوستاف لوبون في كتابه تمدن العرب: أن لفظة الرّق إذا ذكرت أمام الأوروبي الذي اعتاد تلاوة الروايات الأمريكية المؤلفة منذ نحو ثلاثين سنة من الزمان ورد على خاطره استعمال أولئك المساكين المثقلين بالسلاسل المكبلين بالأغلال المسوقين بضرب السياط الذين لا يكاد يكون غذاؤهم كافياً لسد رمقهم ليس لهم من المساكن إلا حبس مظلم وإني لا أقصد أن أتعرض هنا للبحث عن صحة هذا الوصف وانطباقه حقيقة على ما كان واقعاً من الانجليز في أمريكا منذ سنين قليلة وعمّا إذا كان من الأمور المحتملة أن مالك الأرقاء قد قام بفكره أن يسيء معاملتهم ويذيقهم العذاب والهوان بما يكون فيه تلف لبضاعة غالية مثل ما كان الزنجي في ذاك الزمان أما الحق اليقين فهو أن الرّق عند الإسلاميين يخالف ما كان عليه عند النصارى تمام المخالفة. (1) الإسلام أباح الاسترقاق ولكن قيّده بشرطين أحدهما أن يكون بحرب شرعية وثانيهما أن يكون المحارَبون من الكافرين. على أن المسلمين لم يبدؤوا قوماً بحرب حتى ينذروهم ويخيروهم بين ثلاث خصال وهي الإسلام أو الجزية أو الحرب فإن اختاروا الإسلام صاروا إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم فلا يضرهم أصلهم ولا لونهم ولا ما كان منهم قبل أن يسلموا، فإن أبوا ودفعوا الجزية وهي ضريبة لا تساوي بعض ما كانوا يدفعونه لملوكهم. (1)، هذه الترجمة منقولة من كتاب الرّق في الإسلام الذي ألّفه أحمد شفيق باشا باللغة الفرنسية وترجمه إلى العربية العلامة أحمد زكي باشا وهذا الكتاب هو من ضمن المواد التي نستمد منها هذا الفصل. وقد بالغ الإسلام في حمل المسلمين على رعاية أرقائهم حتى قال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه. وعند أبي حنيفة وهو المذهب المعمول به في المحاكم الإسلامية أن من قتل عبداً قُتل به. ولزيادة تخفيف الأمر على الأرقاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن أن يقولوا هذا عبدي فقال: لا يقل أحدكم عبدي وأمَتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي. ورأى أبو هريرة رجلاً على دابته وغلامه يسعى خلفه فقال له: (احمله خلفك يا عبد الله فإنما هو أخوك). وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه لما سافر من المدينة إلى بيت المقدس ليعقد مع صاحبها معاهدة الصلح كان يداول بينه وبين عبده في الركوب حتى أنه وصل وكان الراكب غلامه وأمير المؤمنين ساعٍ خلفه. فخشي أبو عبيدة أن يحتقره الناس فقال يا أمير المؤمنين أراك تصنع أمراً لا يليق فإن الأنظار متجهة إليك. فقال عمر: لم يقل ذلك أحد قبلك وكلامك هذا يوجب اللعنة على المسلمين وقد كنا أذل الناس وأحقرهم فأعزنا الله بالإسلام ومهما طالبنا العز بغيره أذلنا الله. هذا شأن تعاليم الإسلام في احترام حياة الأرقاء والانعطاف عليهم وقد سار المسلمون على هذه الأصول فكان أرقاؤهم أحسن أرقاء العالم حالاً وقد اندمج كثير منهم في أُسر ساداتهم بل بلغ كثير منهم أقصى الرتب والألقاب فصاروا وزراء بل ملوكاً ككافور الأخشيدي. هنا يقال لم يبطل الإسلام الاسترقاق بالمرة. نقول أن الاسترقاق كان حالاً من أحوال هيئة الاجتماع في أدوار الإنسانية الأولى بمعنى أنه كان حادثاً اجتماعياً له عوامل طبيعية تقتضيه يدوم ما دامت تلك العوامل وقد عدّه علماء العمران سبباً لرقي النوع الإنساني درجة أو درجتين في سلم العمران والمدنية. جاء في دائرة معارف القرن التاسع عشر الفرنسية ما يأتي ( أن الحروب أفادت النوع البشري كثيراً حتى أن أسوأ نتيجة من نتائجها وهي الاسترقاق لم تخلُ من فائدة كبيرة ومزية عظيمة. ولا يستغربنّ القارئ هذا الأمر فإن ترقي النوع البشري قد يأتي أحياناً من طرق لا يظن مجيئه منها. فبالاسترقاق تحررت المرأة من ذل الأسر الذي كانت فيه عند بعلها فأنها كانت عنده لا تفترق عن العجماوات والبهائم ولما جاء الرقيق رفع عن كاهلها كثيراً من المصاعب التي كانت منوطة بأدائها وأسماها شيئاً ما في عين الرجل لأن دخول الغريب في أسرة يقضي على أفرادها باحترام بعضهم بعضاً أمامه. كل هذه المزايا أثرت على المرأة تأثيراً حسناً أهّلها لأن ترقى درجة من التهذيب وبترقي المرأة تحسن شأن النوع البشري وارتقى تبعاً لها إلى معارج الفلاح أما الآن فلم يبق ضرورة للاسترقاق فإن الأعمال قد خفت وطأتها عن عواهن البشر وجاءت الآلات الميكانيكية فأراحت الإنسان كثيراً عما كان عليه في الأزمنة السابقة) انتهى باختصار. إذا علمت هذا السر العمراني عرفت سر إبقاء الإسلام للاسترقاق إلى حين ولكن اعلم أنه وإن كان أبقاه فلم يؤيده. ولم يقرره بل وهب الأرقاء حقوقاً لم يحلم بها أحرار الأمم السابقة ثم تركه وشأنه حتى يزول مقتضيه من النظام الاجتماعي فيزول هو بنفسه واعلم أنه في العصر الذي كان الإسلام يقول لمتبعيه (أخوانكم خولكم) كان الفلاحون في أوروبا مثلهم كمثل الماشية يباعون مع أرضهم إلى الأغنياء وبقي ذلك فيهم إلى القرن الثامن عشر حتى جاءت الثورة الفرنسية فأحدثت الحرية الشخصية واعلم أن الأوروبيين الذين ينادون الآن بسيئات الاسترقاق ويتهمون المسلمين ودينهم بما هم وهو عنه براء كانوا أشد الأمم كلباً على الاسترقاق وأفظعهم معاملة للرقيق. قلت: فبعد هذه المقدمة من بيان حال الرّق في العالم، ونظرة الإسلام إليه نبيّن ما يلي: 1- أن الرّق قديم بقِدم الحروب بين الناس. 2- أن عادات الأقوام في ذلك من أشنع ما يكون من المعاملة، خلافاً لأحكام الإسلام، التي جاءت بأعطاء الرقيق حقوقاً بالغة الأهمية، وسنّت طرقاً كثيرة لتحقيق الحرية، ما يدل على تشوف وحرص الإسلام على رد الأمور إلى نصابها وهي الحرية. 3- أن الإسلام لم يبتدئ هذه الأحكام، وإنما جاء مقراً لها كواقع حاصل يصعب ويشق رفعه وإلغاؤه. 4- أن نظام الرّق في الدين الإسلامي ضيق للغاية ولا يبرره أي عمل. ثم بعد هذا أود أن أبيّن أمرين اثنين: الأول: أن الرّق ليس تشريعاً ابتدائياً، مع إقرار الإسلام له، وعليه فله مناط يتعلق به، وعليه فليس هو من التكاليف، فلا يُقال فيه واجب ولا مندوب، لأن الدين لم يطلب ذلك، وليس معنى هذا إنكار هذا الأمر من أساسه، لكن يمكن توظيفه كما يلي، وهو: ثانياً: لما كان نظام الرّق متعلقاً بالجهاد، أو البيع ثانياً، لأن بيع الحر ابتداءاً حرام شرعاً، دلّ ذلك على أنه من العقود، ومبنى العقود على تحقيق المصالح، وكذلك الجهاد، كما قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" أي: شرع الجهاد لتحقيق مقصد التوحيد، فأن حصل خلاف المقصود سقط الحكم، ومن هنا قلنا إن للرّق مناطاً يتعلق به، وهو المصلحة، ما يوصلنا إلى أن نقول: نظام الرّق نظام مصلحي، لقيامه على مبدأ مصلحي أساساً وهو الجهاد، ومن هنا اتفقت كلمات المفسرين والفقهاء على ذلك، ومنها قول الشنقيطي في الأضواء 3/314 في تفسير آية 9 من سورة الإسراء: "...، إلا إذا اختار الإمام المنّ أو الفداء، لما في ذلك من المصلحة على المسلمين، ..." ا.هـ قلت: فقوله: اختار الإمام، دليل على أن تطبيق أحكام الرّق مصلحة، وإلا لما قال: اختار الإمام. وفي تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني 12/69: "تنبيه : لم يتعرضوا فيما علمت إلى أن الإمام لو اختار خصلة له الرجوع عنها أو لا، ...، أما الأول فهو لو اختار خصلة ظهر له بالاجتهاد أنها الأحظ ثم ظهر له به أن الأحظ غيرها، ...، لم يجز له الرجوع عنها مطلقاً، ..." ا.هـ قلت: فقوله: ظهر له بالاجتهاد –أي: الإمام: دليل على أن مردّ الحكم للإمام بوظيفته التي هي كونه حاكماً، وأن له حق الاجتهاد، فهذا يعني أن الحكم له مناط يتعلق به، وهو المصلحة، وما دام أنه معلق بالمصلحة، فللحاكم أن يتدخل فيه بأثبات أو إلغاء، وليس هذا معناه إلغاء الحكم الأصلي، فهذا لا يجوز إنكاره، أما توظيفه فلا حرج فيه بناءً على ما ذكرنا والله أعلم، خصوصاً أن نظام الرّق ليس من التكاليف، بل هو من الأحكام الوضعية المتعلقة بالأسباب، مثل تأجيل الجهاد لوقت التمكن، فليس هذا إلغاءً لأصله. ومن هنا فالتوقيع على اتفاقية فيينا من وضع قوانين تراعي الأسرى، لا بأس به، لأن ذلك صورة من الصور التي تحقق مقاصد الدين من النظر إلى التكثير من تحرير الأرقاء، فمن لطم عبده حرره، ومن حنث في اليمين حرره، ومن قتل خطأً حرره، وشُرعت المكاتبة لتحريره، ...الخ الصور التي ذكرها الفقهاء عن حرص الإسلام على تحرير الأرقاء، فضلاً عن القانون العالمي في حسن معاملتهم. وعليه: فالقول بالقانون الدولي في حكم الأسرى، ليس إلغاءً لحكم الرّق، بقدر ما هو اختيار صورة من الصور المشروعة وهي اتخاذهم أسرى دون كونهم أرقاء، بل يشرع ما هو أسمى من ذلك كالمنّ والفداء، والمنّ إطلاق سراح الأسير دون مقابل، والفداء معروف، كما قال تعالى: "فأما مناً بعد وإما فداءاً". ومن هنا لا يجوز ربط أفعال المتطرفين كداعش وغيرها بالإسلام، لأنها –أعني أفعال داعش- ليست قائمة على فقه الدين، وإنما على الشهوات والرغبات، وعليه لا يجوز إطلاق المنع فضلاً عن إطلاق حكم التكفير على من قال بما قلنا: لأن توظيف المسألة شيء، وإنكار حكم المسألة شيء آخر، ولا يجوز الخلط بينهما، خصوصاً –كما قلنا- أن المسألة من مسائل المصالح، والله أعلم. |