الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الاوّلين والآخرين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فمع اقتراب إهلال هلال شهر ذي الحجة لاح لي أن اكتب مقالة في "بشائر الحاجّ" لعلها تكون دافعا لمن تكاسل عن هذه العبادة العظيمة ومشوقة له وفي الوقت نفسه تكون زاداً ونبراسا لمن تجهز لحج بيت الله الحرام لهذا العام نسأل الله تعالى أن يرزقنا حجَّ بيته على الدوام فرحين مسرورين بطاعة رب الأنام متبعين سنة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. فمن هذه البشائر ما يأتي: البشارة الأولى: الحج اجتباء واصطفاء. فعن ابن عباس رضى الله عنه، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج: 27] قال: ربّ ومَا يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أُيّها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا- قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون [1]. وعنه قال: قال: لما بنى إبراهيم البيت أوحى اللهُ إليه، أن أذّن في الناس بالحجّ، قال: فقال إبراهيم: ألا إن ربَّكم قد اتخذ بيتا، وأمركم أن تحجوه، فاستجاب له ما سمعه من شيء من حجر وشجر وأكمة أو تراب أو شيء: لبَّيك اللهم لبَّيك[2]. وعنه قال: قوله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج: 27] قال: قام إبراهيم خليل الله على الحجر، فنادى: يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن من سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبَّيك اللهمّ لبَّيك[3]. وعن سعيد بن جُبير: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ﴾ [الحج: 27] قال: وقرت في قلب كلّ ذكر وأنثى. وعنه قال:في قوله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ﴾ [الحج: 27] قال: قام إبراهيم على مقامه، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربَّكم، فقالوا: لبَّيك اللهمّ لبَّيك، فمن حَجّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ[4]. وعن داود، عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، قام على المقام، فنادى نداءً سمعه أهل الأرض: إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه، قال داود:فأرجو من حجّ اليوم من إجابة إبراهيم عليه السلام[5]. قال الشَّافِعِيّ رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل - لإبراهيم خليله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].قال الشَّافِعِي رحمه الله: فسمعتُ بعض من أرضى من أهل العلم يذكر: أن الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على المقام فصاح صيحة: (عباد اللَّه أجيبوا داعيَ الله) فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته، ووافاه من وافاه يقولون: (لبيك داعي ربنا، لبيك) [6]. البشارة الثانية: الحاجّ من وفد الله. لما كان الحج اصطفاء واجتباء فمن كان هذا حاله أصبح وافدا على الله تعالى ومن كان وافدا على الله كان حقا على الله ان يكرمه بان يعطيهم سؤالهم: فعن أبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي، وَالحاجّ، وَالْمُعْتَمِرُ "[7]. وعَنْ مِرْدَاسٍ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: " الْوُفُودُ ثَلَاثَةٌ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ وَافِدٌ عَلَى اللهِ، وَالحاجّ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَافِدٌ عَلَى الله، وَالْمُعْتَمِرُ وَافِدٌ عَلَى اللهِ مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ إِلَّا قِيلَ: أَبْشِرْ "، قَالَ مِرْدَاسٌ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِالْجَنَّةِ[8].
وعن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: " وَفْدُ الله ثَلَاثَةٌ: الحاجّ، وَالْمُعْتَمِرُ وَالْغَازِي، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ اللهَ فَيُعْطِيهِمْ سُؤَالَهُمْ " [9].
البشارة الثالثة: أنّ الحاجّ مجابُ الدعوة. لما كان الحاجّ محلَّ اصطفاء الله ووفادته كان من إكرام الله عليه أن يجيب دعوته. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حِينَ يَسْتَنْصِرُ، وَدَعْوَةُ الحاجّ حِينَ يَصْدُرُ، وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ حِينَ يَقْفِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حِينَ يَبْرَأَ، وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ - ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً، دَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ " [10].
البشارة الرابعة: أنّ الحاجّ مغفور له، وتعتق رقبته من النار، ويباهي الله به الملائكة. فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِّينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ". زَادَ فِيهِ غَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: " يَسْأَلُونِي رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْنِي، وَيَتَعَوَّذُونَ مِنْ عَذَابِي وَلَمْ يَرَوْنِي "[11].
وعَنْه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " هِيَ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا عَفِيرًا يُعَفِّرُ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لَمْ يَرَوْا رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ "[12].
وفي رواية البغوي: فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: يَا رَبِّ فُلانٌ كَانَ يَرْهَقُ، وَفُلانٌ وَفُلانَةٌ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لَقَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ»[13].
وما ينبغي أن يعلم أن المغفرة أصلها من "غفر": فالغين والفاء والراء عُظْمُ بابِه السَّتْر،ثم يشِذُّ عنه ما يُذكر. فالغَفْر: السَّتر. والغُفْران والغَفْرُ بمعنَىً. يقال: غَفَر الله ذنبه غَفْراً ومَغفِرةً وغُفراناً...ويقال: غَفِرَ الثَّوبُ، إذا ثارَ زِئبِرهُ. وهو من الباب، لأنَّ الزِّئبِر يُغطِّي وجهَ الثَّوب. والمِغْفَر معروف.والغِفارة: خِرقةٌ يَضَعها المُدَّهِنُ على هامَته. ويقال: الغَفِير: الشَّعر السَّائل في القفا.وذُكر عن امرأةٍ من العرب أنَّها قالت لابنتها: "اغفِرِي غفيرَك"،تريد: غَطِّيه.والغَفِيرة: الغُفرانُ أيضاً[14]، وهو ستر القادر لقبيح الصادر ممن تحته، حتى إن العبد إذا ستر عيب سيده خوف عقابه لا يقال غفر له[15]، والغفران والمغفرة من الله هو صون العبد من أن يمسه العذاب،وقد يقال غفر له إذا تجافى عنه في الظاهر وإن لم يتجاف عنه في الباطن، والاستغفار: طلب ذلك بالمقال والفعال[16]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173] و ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82] ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16]، فالمغفرة بمعنى الستر عموما فعندما نقول: اللهم اغفر لي أي: استرني.
البشارة الخامسة: أن الحاجّ يغفر له ولمن استغفر له، ويُشفِّع فيمن شِفِّعَ له. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ، وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحاجّ» [17].
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الحاجّ مَغْفُورٌ لَهُ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ»[18].
وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «يُغْفَرُ لِلْحَاجِّ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الحاجّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَعَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ»[19].
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ،قال: قال رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحاجّ يَشْفَعُ فِي أَرْبَعِ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ، أَوْ قَالَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»[20].
وزاد عبدالرزاق في مصنفه: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُوسَى إِنِّي كُنْتُ أُعَالِجُ الْحَجَّ، وَقَدْ ضَعُفْتُ وَكَبُرْتُ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ يَعْدِلُ الْحَجَّ؟ قَالَ لَهُ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ سَبْعِينَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ؟ فَإِمَّا الْحِلُّ وْالرَّحِيلُ فَلَا أَجِدُ لَهُ عِدْلًا - أَوْ قَالَ مَثَلًا »[21].
البشارة السادسة: أنّ الحاجّ يُنفى عنه الفقرَ والذنوب. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ» [22].
ومما ينبغي أن يعلم أن النفي أصله من: (النون والفاء والحرف المعتلّ أُصَيلٌ يدلُّ على تعْرِيةِ شيء من شيءٍ وإبعاده منه. ونَفَيتُ الشّيءَ أنفيه نفياً، وانتفى هو انتفاء. والنُّفَاية: الرَّدِيُّ يُنفَى. ونَفِيُّ الرِّيحِ: ما تَنفيه من التُّرابِ حتى يصيرَ في أصولِ الحِيطان. ونَفِيُّ المطر: ما تنفيه الرِّيحُ أو ترُشُّه. ونَفِيُّ الماء: ما تطاير من الرِّشاءِ على ظهر المائح. والمهموز منه كلمةٌ واحدة، هي النُّفأُ: قطعٌ من الكلأ متفرّقة من عُظْم الكلأ، الواحدة نُفَأة)[23] والنفي ما نفته وفي الحديث: ((المدينة كالكير تنفي خبثها)) أي تخرجه عنها وهو من النفي الإبعاد عن البلد يقال نفيته أنفيه نفيا إذا أخرجته من البلد وطردته[24] ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، والنفي ابلغ من المحو والإذهاب[25].
فالذي يؤدي هذه العبادة العظيمة يتعرَّى من السيئات وتبعد عنه وجاء هذا التشبيه الرائع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذهب الذي يعرض على النار فالنار تطهر الذهب من الشوائب وتنفيها وتبعدها عنه فيزداد جودة كذلك الحاج والمعتمر تُنْفَى عنه ذنوبهُ وآثامُهُ.
البشارة السابعة: أن الحجّ يهدم ما قبله. فعن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»[26].
والهدم أصله من هدم: والهاء والدال والميم: أصلٌ يدلُّ على حَطِّ بناء، ثم يقاس عليه، وهَدَمت الحائطَ أهدِمُه. والهَدَم: ما تهدَّم، بفتح الدال.ومن الباب الهِدْم: الثَّوب البالي، والجمع أهْدام... والهَدْمَة: الدُّفعة من المَطَر، كأنَّها تتهدَّمُ في اندفاعها[27]. الهَدْمُ نَقِيضُ البناء هَدَمَه يَهْدِمُه هَدْماً وهَدَّمه فانْهَدَمَ وتَهَدَّمَ... والهَدْمُ قَلْعُ المَدَرِ يعني البيوت... والأَهْدَمانِ أَن يَنْهارَ عليكَ بناءٌ أَو تقعَ في بئرٍ أَو أُهْوِيَّة، والهَدْم بالسكون وبالفتح أَيضاً هو إِهدارُ دَمِ القتيلِ يقال دِماؤهم بينهم هَدْمٌ أَي مُهْدَرةٌ والمعنى إِن طُلِب دَمُكم فقد طُلِبَ دَمي وإِن أُهْدِرَ دَمُكم فقد أُهْدِرَ دَمي لاستِحكام الأُلْفة بيننا وهو قولٌ معروف والعرب تقول دَمي دَمُك وهَدَمي هَدَمُك وذلك عند المُعاهَدةِ والنُّصْرة[28] والهدم خص أصله بالبناء ثم استعير في جميع الأشياء فقيل هدم ما أبرمه من الأمر[29].
فالذنوب إذا تجمّعت وتراكمت كانت كالبناء على ابن ادم محسوسا وملموسا، من اجل ذلك أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة بأمته أن تُسْقِطَ هذا البناء ولا تُبقي له من الأثر بإعمال صالحة اخبرنا انه من أدّاها أسقطت هذا البناء المتراكم الذي سيهلكه يوم القيامة.
البشارة الثامنة: أنّ الحاجّ مُعَان في حجه. فعن مكحول، أنه سمع أبا أمامة، وواثلة بن الأسقع يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعة حق على الله عونهم: الغازي، والمتزوج، والمكاتب، والحاجّ)) [30].
البشارة التاسعة: أنّ الحاجّ نفقته في سبيل الله، ومضاعف له فيها الأجر والثواب، وهي مخلوفة عليه. فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادةٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ، كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الدِّرْهَمُ بِسَبْعِمِائَةٍ»[31].
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحاجّ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ سَأَلُوا أُعْطُوا، وَإِنْ دَعَوْا أُجِيبُوا، وَإِنْ نَفَقُوا أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا هَلَّلَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ مَبْلَغُ التُّرَابِ»[32].
البشارة العاشرة: أنّ الحاجّ بمنزلة المجاهد في سبيل الله. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " جِهَادُ الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالضَّعِيفِ، وَالْمَرْأَةِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ "[33].
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيٌّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى جِهَادٍ لَا شَوْكَةَ فِيهِ؟ الْحَجُّ»[34].
وفيه رواية: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنِّي جَبَانٌ، وَإِنِّي ضَعِيفٌ. قَالَ: «هَلُمَّ إِلَى جِهَادٍ لَا شَوْكَةَ فِيهِ، الْحَجُّ»[35].
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الجِهَادَيْنِ»[36].
البشارة الحادية عشر: أفضل الجهاد حجٌّ مبرور. فعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»[37].
البشارة الثانية عشر: أنّ الحاجّ من أهل الجنة. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَتَانِ أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُكَفَّرُ مَا بَيْنَهُمَا "[38].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» قَالَ: وَمَا بِرُّهُ؟ قَالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَطِيبُ الْكَلَامِ»[39].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ»[40].
والتكفير في اللغة أصله في اللغة من " كفر": (الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية. يقال لمن غطّى دِرعَه بثوبٍ: قد كَفَر دِرعَه. والمُكَفِّر: الرّجل المتغطِّي بسلاحه...والنهر العظيم كافر، تشبيهٌ بالبحر. ويقال للزَّارع كافر، لأنَّه يُغطِّي الحبَّ بتُراب الأرض. قال الله تعالى: ﴿ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: 20]. والكُفْر: ضِدّ الإيمان، سمِّي لأنَّه تَغْطِيَةُ الحقّ. وكذلك كُفْران النِّعمة: جُحودها وسَترُها. والكافور: كِمُّ العِنَب قبل أن يُنوِّر. وسمِّي كافوراً لأنَّه كفَر الوَلِيع، أي غطَّاه)[41].وهو ستر الذنب وتغطيته حتى يصير بمنزلة مالم يفعل[42]،وعلى هذا فالتكفير أعلى من المغفرة فيزاد التغطية على المغفرة.
البشارة الثالثة عشر: أن الحاجّ يرجع من حجه على الفطرة والتوحيد وقد غفر له. فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»[43].
مما ينبغي أن يعلم أن شراح الحديث ذهبوا إلى مذهبين في توجيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) فمهم من قال إن وجه الشبه أنّ الطفل الذي يولد لا ذنب عليه كذلك الحاجّ يرجع من حجه وقد غفر له ومنهم من قال ان الحاجّ يرجع من حجه على الفطرة والتوحيد، وهذا هو وجه الشبه بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ»[44].
قلتُ: ولا بأسَ بجمع المعنيين في آن واحد فهو يرجع على الفطرة والتوحيد وقد غفر الله له، وهذا من كرم الله على الحاجّ، رزقنا الله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا وتجارة لن تبور.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] تفسير الطبري:(18 / 605). [2] تفسير الطبري: (18 / 606). [3] تفسير الطبري: (18 / 606). [4] تفسير الطبري: (18 / 606). [5] تفسير الطبري: (18 / 606). [6] تفسير الإمام الشافعي: (3 / 1081). [7] سنن النسائي: (5 / 113):( 2625) وقال الالباني: صحيح، وصحيح ابن خزيمة (4 / 130): ( 2511)، وقال الاعظمي: صحيح، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (1 / 608):(1611)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. [8] السنن الكبرى للبيهقي: (5 / 430): (10387). [9] شعب الإيمان: (6 / 18): (3812)، وقال: " هَذَا مَوْقُوفٌ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ ". [10] شعب الإيمان: (2 / 376): (1087). وقال ابن الملقن: وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور عبدالله بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَقَالَ: حَدِيث حسن من رِوَايَة ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. ينظر البدر المنير: (5 / 149): [11] شعب الإيمان: (5 / 497): (3774). [12] صحيح ابن حبان: (9 / 164): (3853)، و مسند أبي يعلى الموصلي: (4 / 69): (2090)، وقال محققه: رجاله ثقات. [13] شرح السنة للبغوي: (7 / 159): (1931). [14] ينظر مقاييس اللغة: (4/385). [15] ينظر التعريفات: (1/286)، و الأفعال: (2/415)، والتعاريف: ( 1/668). [16] ينظر مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 609). [17] المستدرك على الصحيحين للحاكم: (1 / 609): (1612)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. [18] الآثار لأبي يوسف: (1 /110): (518). [19] مصنف ابن أبي شيبة: (3 /122): (12657). [20] مسند البزار: (8 / 169): (3196). [21] مصنف عبدالرزاق الصنعاني: (5 / 6): ( 8807). [22] سنن الترمذي ت شاكر (3 / 166): (810)، وقال: وَفِي البَابِ عَنْ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَجَابِرٍ.: «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ». [23] مقاييس اللغة: ج5/ص456. [24] ينظر لسان العرب: ج15/ص337. [25] ينظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج4/ص49. [26] صحيح مسلم: (1 / 112): (121). [27] ينظر مقاييس اللغة: (6: 30)، ومفردات ألفاظ القرآن: (ص 835)، والتعاريف: (1/740). [28] ينظر لسان العرب: (12 / 603). [29] التوقيف على مهمات التعاريف: (1 / 740). [30] الترغيب والترهيب لقوام السنة: (3 / 250): (2460). [31] مسند أحمد: (38 / 105): (2300)،وقال محققه: حسن لغيره، ومصنف ابن أبي شيبة (3 / 122): (12660). [32] شعب الإيمان: (6 /17): (3809). [33] مسند أحمد: (15 /272): ( 9459)، وسنن النسائي (5 / 113): (2626)، وقال الألباني: حسن. [34] مصنف عبدالرزاق الصنعاني: (5 / 174): (9283). [35] المعجم الكبير للطبراني: (3 / 135): (2910)، وقال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. ينظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: (3 / 206). [36] صحيح البخاري (2 / 133): (1516).. [37] صحيح البخاري، بَابُ فَضْلِ الحَجِّ المَبْرُورِ: (2 / 133): (1520). [38] مسند أحمد: (12 / 309): (7354)، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. [39] المعجم الأوسط: (8 / 203): (8405).وقال الهيثمي: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.ينظر مجمع الزوائد: (3 / 207). [40] صحيح البخاري (3 /2): (1773). [41] ينظر مقاييس اللغة: ج5/ص191. [42] ينظر التعاريف: ج1/ص202. [43] صحيح البخاري: (2 /133): (1521). [44] صحيح البخاري: (2 /100): (1385). |