نظرات في حادثة الهجرة النبوية ليس غريباً أن يجعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حادثة الهجرة تأريخاً للمسلمين يتميزون به عن غيرهم من الأمم والشعوب. فالهجرة النبوية المباركة علامةٌ فارقةٌ في تاريخ الأمة الإسلامية بل في تاريخ الإنسانية جميعاً. وهكذا يعلمنا سيدنا عمر رضي الله عنه كيف يكون للأمة هويتها الخاصة، وكيف تصنع الأمة تاريخها وتعتز به، وتحافظ على خصوصيتها بين سائر الأمم. هاجر نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد أن رأى من قريش صنوف العذاب ليرجع عن دعوته، فلم يفعل. وعرضوا عليه المال والجاه ليترك دين الله الذي جاء به للبشرية كافةً فلم تمِلْ نفسه للدنيا وزخرفها. واستمرّ النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من الترغيب والترهيب في نشر دعوة الإسلام إلى أن جاءه الأمر بالهجرة، وفراق الوطن الحبيب. إن صاحب الرسالة السماوية لا يثنيه ترهيبٌ أو تعذيبٌ عن تبليغ رسالته، لأنه صاحب مبدأ. ولا تستميله الدنيا وزخرفها؛ لأنه يعلم بأن ما عند الله من النعيم خير وأبقى. وإذا حوصر الإنسان ولم يمكّن من عبادته وأداء دعوته ورسالته كما هو مطلوب منه، فأرض الله واسعة، والخلق كلهم عباد الله. ولا يعني هذا بحال أن يتخلى الإنسان عن وطنه وحبه له، فهذا أمر يفوق الفطرة البشرية السليمة، فحب الأوطان جزء من كيان الإنسان وشخصيته، وحفظاً على هذا الكيان والشخصية، كان المجتمع المدني ينقسم إلى المهاجرين والأنصار، المهاجرون.. ليتذكروا وطنهم الذي أرغموا على تركه وأخرجوا منه، فيظل حاضراً في عقولهم كما هو حاضر في قلوبهم. تعلمنا مدرسة الهجرة أنّ على صاحب الدعوة والرسالة أن يتعب في سبيل دعوته، وأن يجد ويجتهد، فالله تبارك وتعالى الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المبارك -فك الله أسره- قادر أن يرسل البراق لينقل نبيه من مكة إلى المدينة. لكن كيف تبنى الحضارة ويصنع التاريخ بمثل هذه الخوارق للعادة في ذلك الزمن، لا بد للدين أن يبلّغ وللحضارة أن تشيّد بالمقاييس العادية والمواصفات البشرية الطبيعية، ليكون تبليغ هذه الرسالة صالحا لكل زمان ومكان، ولا يقال قد بنيت هذه الدعوة على الخوارق التي تفوق قدرة البشر. هاجر النبي صلى الله عليه وسلم سراً بعد أن أعدّ خطةً محكمةً لمغادرة مكة المكرمة، خطة تنبئنا أن الأخذ بالأسباب والتخطيط من أجل النجاح، من أهم الأسس التي يبني عليها الإنسان حياته، حيث لم يغفلها النبي المرسل من عند الله، فكيف بسائر العباد. وأن المعنى الحقيقي للتوكل على الله هو اطمئنان القلب لقدر الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب. قلت "خطةً محكمةً" تراعي مختلف الظروف والأحوال، فكما أن العبثية والعشوائية مرفوضتان، فكذلك التخطيط البسيط الساذج مرفوض، فإنك "لو أخفقت في التخطيط فإنك تخطط للإخفاق"، فلا بد للإنسان أن يخطط بإحكامٍ ورويةٍ وعقلٍ، واضعاً أمامه كل الاحتمالات والظروف والأحوال؛ لأنه وقت الأزمة والمشكلة لن يُفكر تفكيراً منهجياً سليماً. فحُسن التخطيط والإدارة، وتوقع الأزمة ووضع الحلول المناسبة لها قبل حصولها دروس نتعلمها من الهجرة النبوية المباركة. كما نتعلم من الهجرة كيف نُعزز دور المرأة في المجتمع، فقد عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لسيدتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بمهمة التموين وجلب الطعام للغار، وهي مهمةٌ دقيقةٌ وحساسةٌ، إذ على السيدة أسماء أن تُغادر حيّها وتخرج لمكان الغار مراعيةً ألا يلحظها أحد من الكفار، كي لا يستهدي المشركون من خلالها على مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان للمرأة دورٌ بارزٌ في هذه الحادثة المباركة، مثبتةً قدرتها على الإنجاز، والمساهمة في صنع التاريخ والحضارة، وأنها قادرةٌ على أن تكون فاعلةً في المجتمع، وأنها ترفض أن تعيش على هامشه. |