الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى / نائب رئيس مجلس إدارة الرابطة العالمية لخريجي الأزهر كثيرا ما تدفع الغيرة علي الإسلام بعض المتحمسين له ـ ممن لا ينقصهم حسن المقصد، ولا تعوزهم سلامة النيات إلي المسارعة اللاهثة بعقد المقارنات والتماس أوجه التشابه بين بعض جوانب الإسلام ونظامه الاجتماعي من جهة، وبين كل مستحدث طارئ من أفكار العصر الرائجة التي يغرم بها الناس زمنا ما، ثم ينفضون عنها غير مأسوف عليها، من جهة أخري. لقد عشنا زمنا راجت فيه أفكار الاشتراكية، وهلل لها أنصارها وحواريوها، فرأينا من هؤلاء المتعجلين من يكد ذهنه ويعتصر عقله ليربط بين بعض جوانب الاشتراكية وبين الإسلام، اجتزاء للنصوص تارة، واقتطاعا لها من سياقاتها تارة أخري، بل وجدنا منهم من طوع سيرة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، ووضع علي لسانه وفكره ما يوحي بإنكار الملكية الفردية وغيرها من المقولات ذات اللون المميز! ثم أتي بعد ذلك حين من الدهر راجت فيه الأفكار الليبرالية، وحرية رأس المال، فإذا بمتعجلين آخرين يصنعون نفس الصنيع، ثم دار الزمن دورته، وبسطت العولمة رواقها علي العالم طوعا أو كرها فإذا بفئة من المتعجلين المُحْدثين يقارنون بينها وبين عالمية الإسلام، حتى أصبحنا نتوقع ردود أفعال مشابهة مع كل طارئ مُسْتحدث، في عالم متسارع الخطي، حافل بكل جديد!! ولا يشك امرؤ في أن هؤلاء المتعجلين صنعوا ما صنعوا افتقادا منهم أن صنيعهم هذا إسهام علي نحو ما في إبراز صلاحية الإسلام الدائمة لكل زمان ومكان، وفي إظهار مسايرته للمعارف والمنجزات البشرية في كل آن. لكنهم بهذا الصنيع ينزلقون إلى مزالق عدة: ذلك أنهم بتلك المقارنات المتسرعة يفقدون الجوانب الإسلامية التي يقومون بمقارنتها: سمة المبادأة ويجعلونها أقرب إلى أن تكون رد الفعل ورجع الصدى لما سبق أن جهر به قوم آخرون، انطلقوا من رؤى ذهنية مغايرة، ومن مواقع مذهبية مختلفة، بل وكأن هؤلاء المتعجلين قد ترقبوا ما استحسنه الآخرون لكي يستحسنوه، وما استقبحه الآخرون لكي يستقبحوه، وفي هذا الاتجاه غفلة بائسة عن حقيقة كبرى من حقائق الحضارة الإسلامية، وهي أنها كانت دوما حضارة بادئة فاعلة، تطرح مقولاتها المتفردة، بعد أن تهضم ما جاءت به قرائح الأمم الأخرى، وتتمثل رحيقها، دون استعلاء، أو استعداء، أو استجداء!! ومن جهة ثانية فإن تلك المقارنات تنطوي على مخاطرة فكرية جلية، فكثيرا ما قورنت بعض الجوانب الإسلامية بنظريات وتجارب بشرية علي مستويات عدة، ثم إذا بتلك النظريات والتجارب وقد ظهر عوارها، وانكشف نقصها وخللها، وهجرها أصحابها إلي غير رجعة!! ومن جهة ثالثة فإن مقارنة جانب من جوانب الإسلام كالعالمية مثلا بما تتوهم مشابهته له من الأفكار الوافدة كالعولمة مثلا ينطوي على عزل لتلك العالمية الإسلامية عن سياقها الحي، وعلى بتر لها عن منظومتها العضوية وعلى تجريد عن سماتها المتفردة. إن أية شعيرة من شعائر الإسلام مهما بدت ضئيلة الحجم لا تفهم على حقيقتها إلا حين توضع في سياقها الميتافيزيقي والقيمي والتشريعي، فإماطة الأذى عن الطريق مثلا ـ وهي أدنى شعب الإيمان ـ تجسد علي صغرها مسئولية المسلم نحو وطنه، كما تمثل أيضا أداء المسلم لرسالته الحضارية في الكون، وهي فوق هذا وذاك ـ لو خلصت فيها النية وكانت تنال لأمر الله تعالي ـ ارتفاع من عالم الشهادة إلي عالم الغيب لتنال بها الدرجات، ويؤجر عليها صاحبها بالثواب الجزيل. وهكذا يرفع هذا التصرف البسيط المسلم طبقا عن طبق، ومنزلة فوق منزلة، ومرد ذلك إلي أن المنظومة الإسلامية ذات شخصية متفردة، وليست مجرد حاصل جمع لمجموعة من الوصايا أو النصائح التي لا رابط بينها ولا ضابط. إن كل جانب من جوانب الإسلام التشريعية أو الأخلاقية لا يفهم علي وجهه الصحيح إلا بوضعه في قلب تلك المنظومة المتفردة، ومن يفعل ذلك بوعي وتبصر ـ فسوف يكتشف ـ آنا بعد آن ـ أن كل المقارنات بين تلك النظم البشرية وبين نظام الإسلام: إنما هي مقارنات ظالمة، فليست الحرية في الإسلام كالحرية الليبرالية، ولا المساواة في الإسلام كالمساواة في الاشتراكية، ولا عالمية الإسلام كالدولة المعاصرة التي تجعل مصير الإنسانية فريسة لقوي السوق المتوحشة وآلياتها الساحقة. |