الذكرى الثامنة بعد المائة لإعدام الشيخ عبدالسلام البارزاني

د.فرست مرعي

يعد الشيخ عبد السلام بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد السلام بن الشيخ عبدالله (= تاج الدين) بن الملا محمد البارزاني، أحد أبرز القادة الكرد الذين تزعموا قيادة الحركة الكردية في بداية القرن العشرين والى إستشهاده على يد حكومة جمعية الاتحاد والترقي نهاية عام 1914م.

في الحقيقة أن تاريخ ولادته يشوبه الغموض ما بين سنة 1882 الى 1887م، كما أن تاريخ إعدامه كذلك؟، ويبدو للباحث أن المؤرخ الموصلي "صديق الدملوجي" (1888 – 1958م) عندما التقى به في مدينة العمادية في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1907م إثر زيارة الشيخ إليها ونزوله ضيفاً على صهره (الحاج عبدالعزيز آغا العمادي)، يقول:" كان في الاربعين من العمر، أسمر اللون وسيم الصورة...". (امارة بهدينان، ص81)،  فيما يقول الكاهن الاسكتلندي ويغرام بشأن عمره حينما التقاه في قصبة بارزان عام 1905م بالقول:" عبد السلام شيخ بارزان. رجل في مقتبل العمر يناهز الثامنة والعشرين، وهو كمعظم سكان الجبال متوسط القامة ضامر الجسم ممتلئ حيوية ونشاطاً، ذو وجه مهيب بشوش، كان يضع على رأسه عمامة بيضاء فوق قلنسوة..." (الحياة في شرق كردستان، طبعة دار ئاراس، ص155). وهذا يدل بأن الشيخ ولد في قرية بارزان في بداية عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر حينما كان جده الشيخ عبد السلام الاول لا زال حياً  حسب كلام الدملوجي، وعقد الثمانينات حسب ويغرام. وعلى أية حال فقد تولى الشيخ عبد السلام مشيخة بارزان بعد وفاة والده الشيخ محمد عام 1903م، وهو الاخ الاكبر لإخوته: الشيخ أحمد (1896 – 1969م)، محمد صديق، محمد بابو، الملا مصطفى البارزاني (1903 – 1979م).

هذا المقال يتضمن بعدين اثنين، أولهما تصحيح معلومة تاريخية وقع الكثير من الكتاب والباحثين في براثنها، والثاني البعد الدولي في الاجراء الذي اتخذه الشيخ عبد السلام الثاني البارزاني(؟ -1914م) في محاولته الالتقاء بقادة الدول الكبرى في عصره وهي: بريطانيا العظمى، وروسيا القيصرية، وهما ما تحقق في الثانية، ولم يستطع إنجاز الاولى؛ لأن القدر لم يمهله.

البعد الأول: لقد انطلق الكثير من الكتاب والباحثين في الاعتقاد بأن الشيخ عبد السلام البارزاني قد اجتمع مع القادة الكرد في منطقة بهدينان في تكية قرية بريفكان الواقعة شرق مدينة دهوك في سنة 1907م أو 1908م، وفي بعض الاحايين سنة 1909م، وجميعها بعيدة عن الصواب، فضلاً أن مكان اجتماع الشيخ مع قادة كرد بهدينان هو الآخر محل نظر. ويظهر للباحث أن جميع الباحثين والكتاب التبس عليهم الأمر، حينما نقلوا هذه المعلومة من كتاب إمارة بهدينان أو امارة العمادية للكاتب الموصلي الشهير "صديق الدملوجي"، ويبدو أن الالتباس جاء من خلال توقيت التواريخ العثمانية بالتقويم الرومي الذي تم استخدامه في أيام السلطان عبد المجيد الأول (1839 – 1861م) اعتباراً من  13 اذار 1840م.

ولكن بعد التدقيق في الوثائق العثمانية التي رأت النور في الآونة الاخيرة تبين أن توقيت اجتماع الشيخ عبد السلام مع قادة بهدينان جرى في سنة 1912م.

أما بخصوص المكان الذي جرى فيه الاجتماع، فكان في قصر الشيخ نور محمد البريفكاني الواقع في المدخل الشمالي لمدينة دهوك قرب مدخل كلي دهوك، وحضره كل من الشيخ بهاء الدين النقشبندي والامير حجي رشيد بك البرواري رئيس عشيرة برواري بالا (= العليا).

وهذا القصر بني من قبل الشيخ نور محمد ما بين سنة 1880 الى سنة 1885م عندما زار الشيخ استنبول واستقدم معه أحد البنائين المشهورين لكي يبني له هذا القصر الذي كان عامراً الى سنوات قليلة قبل أن يقوم حفيده "الشيخ نور محمد الثاني" (المتوفى سنة 1983م) ببناء ملحق على الطراز الحديث لاستقبال ضيوفه، وفيما بعد قام حفيده المهندس مأمون بن نور محمد الثاني (وزير بلديات حكومة إقليم كردستان الأسبق) بإعادة تعميره وتجديد بنيانه بعد أن آل الى السقوط نظراً لقدمه، و استخدام  الجيش العراقي ساحات القصر مقراً لدباباته في قصف معاقل بيشمركة ثورة إيلول في ( كليا شدا) خلال سنوات 1974 – 1975م.

وغني عن القول فإن صداقة قوية كانت تجمع بين القائدين الكرديين الشيخ عبد السلام البارزاني زعيم الطريقة النقشبندية، والشيخ نور محمد البريفكاني زعيم الطريقة القادرية. وكان الوالي العثماني لولاية الموصل (نظيف بن سعيد باشا الدياربكري) عضو جمعية الاتحاد والترقي التركية يتوجس منهما ويكن بغضاً شديداً لهما، لأنهما كانا على دراية بمخططات جمعيته العنصرية، لاسيما وأن الشيخ عبد السلام البارزاني وقع على الوثيقة التي تم ارسالها الى الباب العالي وتضمنت مطالب الشعب الكردي التي تضمنت النقاط التالية:

1.         جعل اللغة الكوردية لغة رسمية

2.         جعل التعليم باللغة الكوردي

3.         يعين القائمقائمون ومدراء النواحي، وبقية الموظفين ممن يتقنون اللغة الكردية

4.         تجري الاحكام بمقتضى الشريعة الاسلامية

5.         يعين لمناصب القضاء والافتاء ممن هم على المذهب الشافعي، لان المذهب الحنفي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية

6.         تؤخذ الضرائب من المكلفين  بمقتضى ما نص عليه الشرع وما يزيد عليها أو يخالفها يلغى.

7.         تبقى ضريبة ( بدلات العملة المكلفة) كما هي على أن تخصص لاصلاح الطرق في الاقضية الخمسة.

ويقول الدملوجي في كتابه امارة بهدينان بأن صورة من البرقية ارسلت لكل من الشيخ عبدالقادر النهري وأمين عالي بدرخان والفريق شريف باشا، بناءً على طلب الشيخ عبد السلام، وكان ذلك خلافا لرأي الموقعين الآخرين على البرقية التي أرادوها رسمية بحتة.

وثانيهما البعد الولي في سياسة الشيخ عبد السلام وهو إقامة علاقات مع القوى الدولية الكبيرة المتنفذة آنذاك في السياسة الدولية وهي: بريطانيا، ألمانيا، روسيا القيصرية، فرنسا، ولم تكن الولايات المتحدة الامريكية في تلك الحقبة مهتمة بالشأن الدولي وإنما كانت مهتمة بشأنها الداخلي فحسب.

العلاقة مع بريطانيا العظمى  يمكن استخلاصها من خلال مذكرات المبشر والكاهن الانكليكاني " دبليو. أي. ويغرام"  وشقيقه " إدغار. تي. أي ويغرام" في كتابهما ذائع الصيت ( مهد البشرية – الحياة في شرق كردستان) بما نصه:"... .. ولما سمع الشيخ اننا عائدون الى انكلترا بعد اشهر قليلة على الاغلب ابدى استعداده لمرافقتنا (بحاشية كبيرة طبعاً)، لكي يطلب شخصياً من (رئيس اساقفة كانتربري) فتح مدارس في قراه. ثم يقصد الملك جورج ( الخامس الذي حكم من عام 1910 لغاية 1936م) بزيارة ويجلس معه للبحث في قضية (كردستان) والبت في أمر استقلالها. ولم يكن في وسعنا نحن مع الاسف الشديد ان نؤمله بشيء، لكن اقتراحه كان مخلصاً نابعاً من قلبه بلا شائبة، وعلينا أن لا نخبر الشيخ بموعد رحيلنا وأن نكون على حذر لئلا يتسرب نبأ رحيلنا فيلحق بنا لأن علائم الإصرار كانت واضحة في كلامه". (الحياة في شرق كردستان، ص158).

ويبدو أن الامور قد التبست على المبشر والكاهن ويغرام حينما حدد زيارته الى بارزان سنة 1905م وفي تلك السنة كان الملك أدوارد السابع(1901 – 1910م) يحكم بريطانيا العظمى والهند، بينما الصحيح أن الشيخ عبد السلام رغم وقوع دياره في مكان جبلي قصي إلا أنه كان على دراية بالوضع الدولي في تلك الحقبة، وإنه لماذا ذكر الملك (جورج) ويقصد به الخامس لم يذكر الملك (أدوارد السابع) لآنه كان قد توفي في تلك الحقبة؛ وهذا دليل على إلمعيته واهتمامه بالشأن الولي الذي كان غائباً عن غالبية قادة الكرد.

أما القسم الثاني من البعد الثاني فيتضمن لقاء الشيخ عبد السلام البارزاني وبرفقته زعيم كرد إيران سمكو شكاك (المقتول غيلة عام 1930) وعبدالرزاق بدرخان (أعدم من قبل العثمانيين عام1918م في الموصل) بولي عهد روسيا القيصرية "نيقولا الثاني"(1894 – 1917م) الغراندوق في مدينة تفليس (تبليس) عاصمة جمهورية جرجيا الحالية، وهذا الاجتماع جرى بعد الهجمات العنيفة التي شنها الجيش العثماني على منطقة بارزان بإصرار من الوالي العثماني على الموصل (سليمان نظيف باشا)، وكان المستهدف الرئيسي هو القاء القبض على الشيخ عبد السلام؛ خوفاً منه لأنه أقام علاقة مع دولة كبيرة تشكل خطراً على الامن القومي العثماني وكانت على خلاف تاريخي معها.

مما تقدم يبدو أن الشيخ أراد إقامة علاقة خاصة مع روسيا القيصرية عام 1913م قبل قيام الحرب العالمية الاولى؛ وهذا ناتج حسب رأيي من نظرته الاستراتيجية الثاقبة بعيدة المدى، لما تشكله روسيا من قوة دولية كبيرة، و قربها الجغرافي من كردستان،  فضلاً عن خلافها التاريخي مع الدولة العثمانية التي لم تحاول ولو بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909م) من الإعتراف بالحقوق الثقافية والدينية للكرد الذين طالما دافعوا ببسالة عن الجناح الشرقي والشمالي للدولة العثمانية.

لذا فإن العلاقات الدولية التي حاول الشيخ عبد السلام البارزاني إرسائها على صعيد الحركة الكردية لأول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر( بداية القرن العشرين) لم يسبق لها مثيل، وآتت أُكلها بعد حين حاول الشيخ محمود الحفيد إقامة علاقة مع الاتحاد السوفيتي في عهد الزعيم البلشفي لينين وفيما بعد بريطانيا.

وعلى خطاه نسج أخو الشيخ (الملا مصطفى البارزاني) شبكة من العلاقات الدولية بدءاً من سنة 1944م ولغاية وفاته عام 1979م، بدءاً ببريطانيا ومروراً بالاتحاد السوفيتي وفرنسا وإسرائيل وانتهاءً بالولايات المتحدة الامريكية؛ آتت أكلها في بيان 11 آذار التاريخي عام 1970 حينما اعترفت الحكومة العراقية لأول مرة بالحقوق السياسية للشعب الكردي. وفيما بعد سار أبناء أخيه على نفس المسار في تغذية الحركة الكردية المعاصرة بنسيج من العلاقات الدولية والإقليمية المتشعبة والمتقاطعة في كثير من الأحايين، بواقعية ومرونة أكسبت إقليم كردستان الحالي مصداقية وشفافية جعلتها بيضة القبان في حل الكثير من المعضلات الدولية الراهنة،(داعش ومسألة الاقليات الدينية كنموذج)، بالاضافة الى تعزيز دور الكرد في الساحة الدولية والاقليمية كقوة يحسب لها حساب، بعد أن كانت القضية الكردية مجرد قضية لاجئين ومظلومين يجب على المنظمات الإنسانية دعمها، لاسيما وأن هذا الدور السياسي والاقتصادي الفاعل كان غائباً طيلة القرن العشرين ما عدا العقد الاخير منه بعد انتفاضة آذار/ مارس عام 1991م التي قام بها الشيعة والكرد ضد نظام الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين.