الحوار الوطنى وثقافة الاختلاف

لا يُنكر أن تنوُّع الثقافات، والأفكار والعادات والتقاليد، والمذاهب فى العالم، وحتى ضمن أفراد المجتمع الواحد موجودٌ، وأن الاختلاف بين بنى البشر قديمٌ، وهذا الاختلاف قد يرجع إلى اختلاف الدِّين، والمدارك، والطباع عند الناس، ومدى اعتبار المصالح والمفاسد، والبيئة، والثقافات.

وهذا الاختلاف قد يكون سبباً فى البناء وترقِّى الحضارات، وقد يكون سبباً إلى الهدم والخراب، فالاختلاف البنَّاء هو القائم على منظومةٍ أخلاقيةٍ، وأسس علمية يتفق عليها العقل الرجيح، والمنطق الصحيح، والهدف الواضح، أما الاختلاف الهدَّام، فهو القائم على فوضى أخلاقية، وعقل فيه خلل، ومنطق فاسد، وغير محدَّد الهدف.

والاختلاف لا بد أن يرجعنا إلى حوارٍ، فغياب الحوار يؤدى إلى فشلٍ ذريع وإثارةٍ للنزاعات فى صغائر الأمور، والحوار الرشيد لا بد أن يقوم على منظومة أخلاقية، وأسس علمية رصينة، وهدفٍ واضح، وأصلٍ يرجع إليه المتحاورون، وإلا فلن يقع بحوارهما فائدة، يقول الإمام الشاطبى: "إن الخصمين إما أن يتفقا على أصلٍ يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شىءٍ لم يقع بمناظرتهما فائدة".

يقول الله تعالى: "وجادلهم بالتى هى أحسن"، [النحل: 125].

فنجد هنا أن المجادلة تكون بالتى هى أحسن، ولا أحسن من الرجوع إلى الحِكمة وقول التى هى أحسن، والذى يؤدى إلى هذا هو الاتفاق على أصولٍ يتحاكم إليها المتحاورون، وهذه هى الحِكمة، وإلا انعدمت النتيجة.

وما دعا إليه فخامة الرئيس من حوارٍ وطنىٍّ بين أطراف المجتمع أمرٌ فى غاية الأهمية، ومن فروض الوقت، فهو يُعزِّز الاجتماع البشرى الذى هو ضرورى لبقاء النوع الإنسانى، ففيه تتقوَّى الروابط ويُفعَّل التناصح والإيثار، وكل هذا يُرسِّخ "الأمن المجتمعى".

ومن المهم أن يقوم المشتركون فى هذا الحوار بوضع تأسيس حقيقى"للاختلاف الرشيد"، وأيضاً أن ننطلق من الطفل، الذى نُمهِّد له الآن طريقه الذى سيسير فيه، فأطفالنا مستهدفون، وكذا الشباب، ولا يخفى علينا جميعاً ما تُحاوله بعض الثقافات المنحرفة  - التى فكَّكت الإنسان وأضاعته - من تمريره للأطفال، ألا وهو الشذوذ الجنسى (المثلية)، الذى هو محرَّمٌ شرعاً وفطرةً، وهذا إفسادٌ للبراءة والنقاء، وهدمٌ للأمن المجتمعى، ووضعٌ للإنسان فى متاهة العدمية، وتفكيك الأسرة.

ولكن هنا سؤال يرد: كيف نُفعِّل ثقافة الاختلاف الرشيد التى تؤدي إلى حوارٍ ناجح؟

وقبل أن أجاوب على هذا السؤال أحب أن أنبِّه على أنه لا يُعقل أن أتقبَّل مَنْ يُبيح الدماء، ويقتل ويُخرِّب فى البلاد، تحت مسمَّى قبول الاختلاف، فهذا لا تقبله الفطرة السليمة ولا العقل الصحيح، ولا الدِّين.

إذا أردنا أن نُفعِّل ثقافة الاختلاف، ينبغى أن نضع تدابيرَ للاختلاف؛

ومن هذه التدابير:

أولاً: احترام التخصُّص

كل واحدٍ من البشر أعطاه الله عقلاً غريزياً وعقلاً مكتسباً، فالغريزى هو صلاحيته لأن يُدرك، ثم بعد هذا تنشأ معرفة لدى الإنسان ناتجة عن قدح زناد العقل، واكتساب معلومات، تُسمَّى بالعقل المكتسب، فيكشف به الأمور، ثم يحكم به، وهذا متفقٌ عليه بين العقلاء كافة، والعقل المكتسب قد تكون فيه معلومات أوَّلية، وقد تكون فى غاية العمق والدقَّة، إذن هناك كسبٌ يحدث للإنسان، وهذا الكسب منشؤه التعلُّم.

وهذا لا يُخالف فيه عاقل، ومن هذا الكسب ينشأ التخصُّص المعرفى، فالفقيه، والطبيب، والمهندس، والاقتصادى، والمحاسب، والبناء، كل واحدٍ منهم يقضى مدةً فى اكتساب المعرفة الخاصة به، ثم يأخذ سنين فى اكتساب الخبرات، إلى أن يُصبح متخصصاً يُرجع إليه فى مجاله، ولعل قائلاً يقول: أليست هذه وصاية؟

فنقول له: لا، بل هو احترامٌ للعقل وللعلم، وإلا فليذهب مَنْ يحتاج إلى عملية قلب مفتوح لجرَّاح تجميل، مع أن كلاً منهما طبيبٌ، ولا يقول بهذا عاقلٌ، وقائلُ مقولة الوصاية، ينقل مصطلحاً قيل فى وقتٍ معين فى ظرفٍ معين لقضية معينة ويُريد تعميمه، وهذه مغالطة فكرية، ويجب عليه أن يعلم أن هناك فارقاً كبيراً، بين الوصاية الدينية وبين احترام العقل، ولعلى أُفرد هذا الأمر في مقالٍ آخر إن شاء الله.

ثانياً: نشر الوعى

إذا كان الوعى هو قدرة الإنسان على معرفة ذاته وما يحيط به، فيجب هنا أن تكون هذه المعرفة صحيحة، ولا تكون صحيحة إلا بلغة صادقة، فالمفاهيم تُنقل عبر اللغة، فهى أداة التواصل، فإذا حدث كذب فيها، أدى هذا إلى حدوث خلل فى إدراك ما يُراد توصيله.

ولا بد أن يستخدم أفراد المجتمع فى تواصلهم القول الحسن؛ قال تعالى: "وقولوا للناس حسناً"، ولغة الصدق والحياء والأمانة حُسْنٌ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما- أنّ سيدنا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- قال: "أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك فى الدّنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة فى طعمة[1]". 

فالكذب والخيانة يؤديان إلى النزاع، وهذا لا يؤدى إلى ثقافة اختلاف رشيدة.

ومن الخيانة عدم الصدق فى نقل ما يفتّت المجتمع ويقضى عليه، مثل قضية الشذوذ تحت دعوى الحرية، وأنها فقط حرام، ويجب علينا أن نتقبَّل الآخر.

فأقول لقائل هذا القول: الحرية التى تقضى على المجتمع وتفتِّته، وتهدم نظام بقائه وهو الأسرة، لا تُسمَّى حرية، بل هى فاحشة كما سمَّاها الله، سبحانه، ويا لها من حَكمةٍ فى التسمية، قال تعالى على لسان سيدنا لوط- عليه السلام-: "إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين".

فكما أن الداعشى إرهابىٌّ يقتل، فمروِّج الشذوذ إرهابىٌّ يقتل، فكلاهما منتكس الفطرة.

وأختم قائلاً للذى يعتقد أن هذا الأمر حرية:  الاعتقاد لا يُغيِّر الحقائق، فالشبح من بعيد الذى يعتقده الناظر إنساناً، وهو ليس بإنسانٍ لا يصيِّره الاعتقاد إنساناً على الحقيقة.

...

[1]  أخرجه أحمد فى مسنده، ح6652.

 

أ.د. محمد الضوينى- وكيل الأزهر الشريف