الوسطية منهج متكامل للحياة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على محمدٍ رسول الله
أما بعد:
لقد خص الباري عزَّوجل الأمة الإسلامية بخاصية منفردة لم تكن لأمة من الأمم السابقة، ألا وهي الوسطية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة:143، فهي السمة البارزة في الشرع الحنيف، فليس المراد من وسطية الإسلام الوسطية التأريخية و لا الثقافية و لا الجغرافية و لا العرقية، بل المراد منها أنها أفضل الأمم وأعدلها وأكملها وأبعدها عن الغلو، فمثل هذه الأمة تحميها وسطيتها مما يلحق بأخواتها- إذا تركت الوسطية- من النقائص والعيوب من جميع النواحي .
فالوسطية والإعتدال وصف لحقيقة الإسلام كما أمر به الله سبحانه وتعالى،دون إفراط أو تفريط، إذ الإفراط المبالغة بقصد التزام أحكام الدين، والتفريط التهاون بأحكامه، وهي حالة محمودة تدفع أهلها للإلتزام بهدي الإسلام فيقيمون العدل بين الناس، وينشرون الخير، ويحققون عمارة الأرض وعبودية الله، وحقوق الإنسانية بين بني البشر، ويعطى في ظل الإسلام كل ذي حقّ حقَّه.
فالإسلام دينٌ وسطٌ واسع الأفق قابل لكل تجديد في سبيل الرقي والتقدم والبناء ويرفض الجمود والتعصب والعنف والهدم، فالإسلام وسطٌ في كل القضايا الدينية و الدنيوية و العبادات و المعاملات، فهي الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً فتقيم العدل و القسط،وتضع لهم الموازين والقيم .
فالوسطية هي تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة الله في خلقه، وفق نظام رباني، ومشيئة إلهية،فتلك الوسطية إكتملت معالمها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما رسمها القرآن الكريم ، ولم تحدث ظاهرة زيادة شيء جديد لها من بعد ، وليس فيها سرٌ ولا نقصان ولا ما يصدم العقل أو العلم أو الفطرة ، فالوسطية مزية فريدة للإسلام حتى يطمع كثير من الناس أن تحقق للبشرية عملاً مهمًا ، فوسطية الإسلام تستلزم الإبتعاد الكامل عن الإفراط والتفريط في كل شيء ، لأنَّ الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقص عنه تفريط ، وكل من الإفراط والتفريط خروج عن جادة الطريق .
فالإسلام وسط بين دعاة التجديد والإجتهاد حتى في أصول الدين وقطعياته.. ودعاة التقليد وخصوم الإجتهاد وإنْ كان في قضايا العصر التي لم تخطر ببال السابقين، وسطٌ بين الذين يهملون النصوص الثابتة في جزئيات من الدين بدعوى التمسك بمقاصد الشريعة، وبين الذين يغفلون مقاصد الشريعة الكلية بحجة التمسك بالنصوص، وسطٌ بين دعاة الغلو في التكفير حتى كفّروا المسلمين، والمتساهلين فيه حتى أبوه ولو من صرحاء الردة.
فهي وسطية في تشريعها وذلك بالتدرج في الأحكام الشرعية، و التيسير في الشرائع المفروضة و العدل فيها، لأنَّ وسطية الإسلام تقتضى إيجاد شخصية إسلامية متزنة تقتدي بالسلف الصالح في شمول فهمهم وإعتدال منهجهم وسلامة سلوكهم من الإفراط والتفريط، والتحذير من الشطط في أي جانب من جوانب الدين،والتأكيد على النظرة المعتدلة المنصفة والموقف المتزن من المؤسسات والأشخاص في الجرح والتعديل .
وهي شمولية في الفقه وتيسير في الفتوى، وتبشير في التعليم والتوجيه، وتوازن بين السلفية والتجديد، فالسلفية عودة المجتهد للقرآن والسنة الصحيحة، والتجديد معايشة العصر، والتحرر من أسر الجمود والتقليد، وهي دعوة إلى التسامح والتعايش مع الآخرين، وهي منهج للعمل بالشورى بعيداً عن إستبداد الفردية لتحقيق مصلحة المجتمع.
فيها يعتذر للمجتهدين ويعذر المختلفون في مسائل الإجتهاد، وفيها لا يقبل التشدد أو التشديد ولا يضيق المتسع أو يحرم المباح، ولا يلصق الغلو بالشريعة، ولا يؤخذ بالغلظة والفظاظة في الدعوة والمعاملة أو بسوء الظنون أو الوقوع في هاوية التكفير.
فوسطية الإسلام تلزم الأمة الإسلامية بمقاومة الغلو والتطرف في الدين ، ورد الغلاة إلى منهج الاعتدال والحكمة ، ورعاية حقوق نفسه وحقوق غيره، وحينما نتحدث عن وسطية الإسلام يتبادر إلى أذهاننا ما يقابلها من كلمة سائدة على ألسنة الناس اليوم وهي التطرف الديني، فالإسلام يدعو إلى الوسطية ويحذر من التطرف بجميع صوره وأشكاله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : قوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال .
عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لاتشددوا على أنفسكم ، فيشدد عليكم، فإنَّ قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم .
ومن أهم مميزات الوسطية الأمن و الأمان، ولذا يقال: الوسطية تمثل منطقة الأمان والبعد عن الخطر، فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد بخلاف الوسط، فهو محمي ومحروس بما حوله، وكذلك بشأن النظام الوسط والأمة الوسط، ولا شك أنَّ التمسك بالقاعدة التشريعية هو الذي يحقق الأمان لأهل الإيمان، فالظلم من أعظم الأمور التي تزيل الأمن، ومن أظلم الظالمين من نأى عن وسطية القاعدة الشرعية، فعطّلها وجنح إلى غيرها.
فمن أراد أنْ يخرج من طريق الضلال، وأنْ ينأى عن العذاب، فعليه أن يجيب داعي الله الذي يدعوه، ومن بين ما يدعوه إليه التمسك بالوسطية لما تحتله من خيرية.
و كذلك من أهم مميزاتها كون الوسطية دليل القوة، فالوسط هو مركز القوة، ألا ترى أنَّ الشاب الذي يمثل القوة وسطاً بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، والشمس في وسط النهار أقوى منها في أول النهار وآخره ، ومما لا شك فيه أنَّ الوسطية قوة، ولكن أهم مظاهر هذه القوة هو القدرة بحيث إنَّ هذه القدرة يمكن أنَّ تخفي كل قوة وتبقى هي واضحة جلية في الدلالة على وسطية القاعدة التشريعية الإسلامية، فوسطية هذه القاعدة تعني قدرتها على ضبط علاقات الناس في شتى مجالات الحياة ضبطاً محكماً وملائماً، إستناداً إلى تجرد القاعدة الشرعية الإسلامية ذاتها، فهذه القاعدة ربانية المصدر، وهي لهذا السبب تتحرر من كل ما يستبد بها، فهي لا تخدم فئة محددة، ولذا فإنَّها قادرة على إرضاء جميع المخاطبين بأحكامها.
ما أحوجنا الى هذه المفاهيم كما أمرنا بها ربنا الباري عزَّوجل ودلَّ عليها سنة الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه و سلم- من أجل أنْ نحقق رضاء الله سبحانه وتعالى ونقيم شعائرنا على الوجه المطلوب شرعاً دون إفراط أو تفريط، نسأل الله عزَّوجل أنْ يهدينا إلى الصراط المستقيم.

الدكتور عبدالله الشيخ سعيد الكوردي
رئيس إتحاد علماء الدين الإسلامي في كوردستان

هــ بــ