آيَةُ النَّهارِ

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ، والصّلاةُ والسَّلامُ عَلَى مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ، أوصيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وطاعَتِهِ، يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) الفرقان:62. وقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًا فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها) رواه الترمذي وابن ماجه.

النَّهارُ آيَةٌ عَظْيمَةٌ مِنْ آياتِ اللهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَحَطَّاتِ الْمُهِمَّةِ لِبِناءِ الْحَياةِ وَاسْتِثْمارِ الْأَوقاتِ واكْتِسابِ الْأعمالِ الصَّالِحَةِ فيها، لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنسانِ فِي نَهارِهِ وَمَنْزِلَتُهُ فِي يومِ القيامةِ بِأعمالِهِ فِي الدُّنيا، فَالْعاقِلُ مَنْ سابَقَ إلَى الْخَيْراتِ وَالْحَسَناتِ وَابْتَعَدَ عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيُدْرِكُ بِأَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَى عِبادِهِ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَعَلانِيَتَهُمْ وَما اقْتَرَفُوهُ مِنْ سَيِّئاتِ، لِذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَهِدَ في أوقاتِ نَهارِهِ في طاعَةِ رَبِّهِ وَرِضاهُ، لِأَنَّ النَّهارَ خِزانَةٌ نَضَعُ فيها ما نَشاءُ ثُمَّ نُحاسَبُ على ما وَضَعْناهُ، كما قِيلَ: إنَّ اللَّيلَ وَالنَّهارَ خَزانَتانِ فَانْظُرُوا ما تَضَعُوْنَ فيهما.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى في آياتٍ كَثيرةٍ أهْمِيَّةَ النَّهارِ والاغْتِنامَ فيه وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعِبْرَةِ، يقول عز وجلّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) الفرقان:47. ويقول أيضا: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) النمل:86.

المحورُ الأوّل: أهْميّةُ النَّهارِ

إِنَّ الْأَيَّامَ مَراحِلَ نَقْطَعُها إلَى دارِ الْآخِرَةِ، وكُلَّ يَوْمٍ يَمْضِي نَقْطَعُ به مَرْحَلَةً وَنَقْتَرِبَ بِهِ مِنْ آجالِنَا ودارِ الآخِرَةِ وَالْمَوْتِ وما بَعْدَهُ، ونَبْتَعِدُ بِهِ عَنِ الدُّنيا، كما يقولُ بعضُ السَّلَفِ: "يا ابنَ آدمَ، إِنَّما أنت أيَّامٌ كُلَّما ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ". لِذلِكَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسانِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ وَقْتِهِ فَلا يَضِيْعُ مِنْهُ لَحْظَةٌ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ فَيُقَدِّمُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

أَعْمارُنَا هذه التي نَقْضِيها لا تُقاسُ بِعَدَدِ السَّنَواتِ والشُّهُورِ والأيَّامِ، وإنّما تُقاسُ بِمَا اسْتَفَدْنا في تلكَ الْأيّامِ والشّهورِ، لِذلك جَعَلَ اللهُ لِأَوْقاتِ النّهارِ أهمّيةً كَثيرةً وَعَظَّمَ مِنْ شَأْنِها، فَأَقْسَمَ بِها، يقولُ عزَّ وجلَّ: (وَالْفَجْر..ِ)، (وَالضُّحَى..)، (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا..)، (وَالْعَصْر، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ِ..)، وهذا دالٌّ على أَهْمِيَّةِ الْوَقْتِ فِي النَّهارِ، لِأَنَّهُ واحِدٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ، وَلَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي بِنَاءِ حَياةِ الْإِنْسانِ، عَلَيْنَا أنْ نَعْمُرَهُ بِذِكْرِهِ وَنَسْتَفِيدَ فيه بِالْأَعمالِ الصَّالِحَةِ وَالْحِفاظِ عَلَى الْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ وَالْإِنسانِيَّةِ وَنَشْرِ الْفَضيلَةِ وَالنَّفْعِ لِلْعِبادِ وَالْبِلادِ، يقولُ سبحانه وتعالى مُمْتِنًّا على عِبادِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) النحل:12. 

المحورُ الثاني: اغْتِنامُ النَّهارِ

الوقتُ سَريعُ الانْقِضاءِ، وكُلُّ يومٍ تَغِيْبُ شَمْسُهُ لا يَعُودُ أَبَدًا وهو غالٍ ونَفِيسٌ، لذلك أَرْشَدَنَا الْإِسلامُ إِلَى اغْتِنامِ النَّهارِ، لِأَنَّها فُرْصَةُ الْعُمْرِ، وذلك عَنْ طَريقِ:

أوّلاً: المُحافَظَةُ عَلَى أداءِ الْعِباداتِ والاهْتِمامُ بِها، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: 114.

ثانيا: اغْتِنامُ فُرَصِ الْحَياةِ والأوقاتِ قَبْلَ عُرُوضِ الْمَشاغِلِ، كما قال الرسولُ- صلى الله عليه وسلم: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) رواه البيهقي.

ثالثا: الجُهْدُ والاجْتِهادُ لِنَيْلِ الْخَيْرِ والمُقاوَمَةُ لِتَنْظيمِ الْحالِ والسُّلُوكِ والخُطُواتِ الْيَوْمِيَّةِ، قال تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) المزمل:7.

رابعا: القيامُ بِالمَسْؤُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّ النّهارَ نُشُورٌ يَنْتَشِرُ فيه النّاسُ فِي الْأرضِ لَيَنْهَضُوا بِمَسْؤوليّاتِ خِلَافَةِ اللهِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، قال تعالى: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) الفرقان: 47.