الدكتور عباس شومان الأمين العام لهيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف بسم الله الرحمن الرحيم إن الحديث عن الدكتور الزلمي -رحمه الله تعالى- هو حديثٌ عن الأزهر نفسه؛ فهو أحد أبنائه النابهين ، عاش في رحابه، وغُذِّيَ بعلومه ومعارفه، وتلقى من أئمَّته وعلمائه، حتى ليرى المتأمِّلُ في سيرته مدى استفادته ورسوخه في العلم وتمسكه بالمنهج الأزهري الوسطي، وإن الحديث عن الدكتور الزملي يستلزم الحديث عن سلسلة من أكابر علماء كردستان؛ حيث لم يكن الدكتور الزلمي الثمرة الوحيدة التي أثمرها الأزهر للعالم الإسلامي من أبناء كردستان؛ حيث خرج الأزهر الشريف للعالم من أبناء كردستان العديد من أكابر العلماء، فقد سبقه في ذلك جملة من كبار العلماء الأكراد، الذين افتخر بهم الأزهر، وافتخروا بنسبتهم إليه، أمثال: الشيخ سعيد النورسي، والشيخ محمد كرد علي، والشيخ عبد الكريم المدرس، والصوفي الكبير الشيخ أحمد السُّهرَوَردي، والشيخ محمد الزَّهاوي، والشيخ نجم الدين الواعظ، والشيخ عثمان الجُباري، والشيخ عمر وجدي، وهو آخر من شغل منصب شيخ رواق الأتراك والأكراد والبغداديين بالجامع الأزهر، إبَّان ثورة يوليو، من عام 1952م. ولقد مثَّل الدكتور الزلمي بين هؤلاء العلماء حلقةً فريدةً؛ فقد توالت كتاباته العميقة، ومقالاته الرصينة تعالجُ أدقَّ القضايا العلمية فقهًا وأصولًا وتفسيرًا؛ وأخذ يحارب الغلو وما يجرُّ إليه من تحريفٍ للحقائق الدينية وانحراف عن جادة الصواب، مستمسكًا بعروة الفهم الأصيل الذي تلقاه من علماء الأزهر الشريف. لقد أدرك الدكتور الزلمي أهميةَ دورِ الأزهر الشريف وعطائِه لعالمنا الإسلامي عبر تاريخه الذي تجاوز الألف عام، وأن نبوغ الدارسين فيه لم يقتصر على المصريين بل زاحم المصريين علماءٌ تخرجوا في الأزهر من أرجاء عالمنا الإسلامي كافة، وهذا يدل على صلاحية المنهج الأزهري وقدرته على تخريج العلماء من مختلف الجنسيات والقوميات، وإن هؤلاء العلماء الذين تخرجوا في أروقة الأزهر الشريف استطاعوا أن يكونوا هداةً يُبَدِّدُونَ ظلامَ الجهلِ بنور العلم الرصين المستفادِ من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- واجتهادات السابقين من سلفِنا الصالح. ومن ثَمَّ فقد نهل الدكتور الزلمي من علومِ مدارسَ متعددةٍ، وحصل على أعلى شهاداتِها فهو حاصل على العديد من شهادات الماجستير والدكتوراه من جامعات: بغداد، والقاهرة، والأزهر الشريف، في علوم الشريعة والقانون، كما ترك لعالمنا الإسلامي ستين مؤلفا منها ما يتعلق بالمناهج الدراسية وأخرى عامة؛ منها كتب منهجية في الجامعات العراقية والجامعات العربية، ومنها :ما يتعلق بالقرآن الكريم ومباحثه، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه، والفقه، ومنها ما يتعلق بالقانون، والمقارنات بين الشريعة والقانون، ولقد أفاض في موضوعات تتصل اتصالًا وثيقًا بحياة الناس وواقعهم العملي كالنسخ، ومسائل الأسرة، والتدخين، والميراث والوصية. ولقد كسر الدكتور الزلمي حاجز التقليد والجمود الذي أصاب مَنْ قَلَّتْ بضاعتهم من العلم، فانطلق يقرر ما أداه إليه اجتهاده في الدفاع عن شريعة الإسلام وأحكامها، غير ملتفت إلى ثناء هنا، أو ذم هناك، فرفض التقليد المطلق في الفقه وأصوله، ودعا علماء المسلمين إلى الاجتهاد بما يناسب روح النصوص ومتطلبات العصر، ودعا إلى نظر جديد يعتمد على الأدوات العلميَّةِ والمنطقيةِ، والذي عبر عنه: «بالالتزام الأخلاقي في العقود والعهود»، معتبرًا أن الوفاء بالعقود يجب أن يراعي مصلحة جميع الأطراف وفق تطورات العصر. ولم يرتضِ الزلمي القولَ بوقوع النسخِ في القرآن الكريم، وراح يؤكد أن الآيات التي يبدو أنها منسوخة في ظاهرها، تُفهَم في سياقها بشكل تكاملي، دون إلغاء لأحكامها السابقة، وهو أحد اتجاهين لعلماء المسلمين في قضية النسخ، كما اهتم بشأن الأسرة المسلمة، وراح يعالج آثار الاحتقان الذي خلفته تعاليم الحضارة الغربية بين الرجل والمرأة، وأكد ما قرره علماء السلف من أن الطلاق الذي يصدر في حالة غضب أو تهديد لا يقع، وإنما يُعامَلُ كيمين، وأن الطلاق بلفظ الثلاث يقع طلقة واحدة، وهذه الاختيارات التي تبناها الزلمي إنما هي لحفظ كيان الأسرة وتحقيق مقصد الشرع الذي أراد لها الدوامَ والتأبيدَ، وهو ما يقتضي حمايتها من آثار التصرفات الانفعالية والقرارات غير المدروسة التي تصدر نتيجة اختلال الاتزان العقلي العارض؛ حفظا لشمل الأسرة، ورعاية لمصلحة النشء. وقد قدَّمَ قراءةً جديدةً للنصوص القرآنية، فذهب إلى رفض التفسير التقليدي الذي يُرجح شهادة الرجل على المرأة، مؤوِّلًا الحالاتِ التي ذُكِرَ فيها تفضيلُ شهادةِ الرجلِ بأنها استثنائيةٌ وليست عامةً، وطرح اجتهادات متعلقة بحقوق المرأة في الميراث، وقد رأى أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة قد تتطلب اجتهادًا جديدًا يناسب العصر. كما حذر من الغزو الثقافي المغرض، ومع ذلك كان مطلعا على الثقافة الغربية ومنفتحا عليها، لا يرى بأسًا من الاستفادة منها فيما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام ومُثُلِه. لقد كانت حياة الزلمي جهادًا في خدمة العلم والدين، ومع رسوخ الزلمي في العلم ورؤيته الثاقبة، فكل عالم مجتهد يؤخذ منه ويرد عليه، وهذا من الثراء العلمي الذي يرقي بصاحبه ولا ينتقص منه، وما من مجتهد من الأئمة الكبار كالإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وبقية أصحاب المذاهب المعروفة وتلامذتِهم، فكثيرا ما اختلف تلامذة أصحاب المذاهب كمحمد بن الحسن وأبي يوسف مع الإمام الأعظم، واختلف تلامذةُ الإمامِ مالك مع شيخهم، وكذا الشافعية، والحنابلة وغيرهم، وبقي الود والتقدير مظلة للجميع؛ ليضربوا لنا المثل في أدب الخلاف واحترام اجتهاد المخالف وإن كان تلميذا لشيخه، وما أحوجنا في زماننا هذا إلى السير على نهج سلفنا في إعمال العقول في النصوص القابلة للاجتهاد في فهم مرادها بما يحقق مصالح الناس ويناسب الزمان، وما أحوجنا إلى احترام رأي المخالف حتى وإن لم نأخذ منه، هكذا تعلمنا من سلفنا وهكذا تعلمنا في أزهرنا الشريف؛ فالقاعدة أن كل مجتهد مصيب. ومما يدل على تقدير الأزهر تلميذَهُ الزلمي، وأنه يعتز به كأحد علمائه النُّجَبَاء، قرَّرَ فضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حفظه الله تعالى، تكريم هذا العالم الجليل، في عام 2013م بالقاهرة، تقديراً لجهوده العلمية الكبيرة، ودورِهِ المؤثر في نشر الوسطية والاعتدال. رحم الله الدكتور مصطفى الزلمي وسابقيه وأقرانَهُ، ومَنْ لحِقَ بهم، وبارك في العلماء الذين يواصلون مسيرتهم من أبناء كردستان. |